بروفايل| طه حسين.. أعمار من الأدب خلف نظارته السوداء

كتب: مها طايع

بروفايل| طه حسين.. أعمار من الأدب خلف نظارته السوداء

بروفايل| طه حسين.. أعمار من الأدب خلف نظارته السوداء

يرتدي نظارته السوداء رفيقة دربه، حاملة أسراره، فوحدها تعلم ما يجول بباله، معتبرًا إياها بوصلته التي تمكِّنه من السير في عتمة نهاره، فهو كعادته يجلس على كرسيه واضعًا رجلًا فوق الأخرى مستمتعًا بالكلمات الموسيقية التي تُلحنها زوجته "سوزان بريسو" داخل أذنيه وهي تقرأ له بصوتها العذب بعضًا من الكتب، فصارت له عينيه المبصرتين وعصاه التي يستند عليها، وصديقته الودودة التي تُزيح عنه آلامه، وزوجته الحنونة حين تشد على يده فيسيران معًا بطريق رسمه الخيال وتحقق بوجودهم... لم يكن طه حسين مجرد كفيف عادي، فاستطاع أن يسرق من عينيه نورًا يضيء أحلامه التي لم تنطفئ. فالأربع سنوات الأولى من حياته لم تكن كفيلة كي يتعرف فيها ذلك الطفل الحلوم "طه حسين" على ملامح وجهه، فانقطاع النور عن عينيه منعه من رؤية العالم حوله نتيجة الجهل السائد في قريته التي نشأ بها مغاغة بمحافظة المنيا، فعلى الرغم من ذلك تعلَّم الحساب والقراءة والكتابة وحفظ القرآن بمدة قصيرة جعلت محل اهتمام بين أساتذته. دخول "طه حسين" الأزهر 1902 لم يكن حلمه الأكبر، فقد صرَّح ذات مرة بأنه أحس بأنه قضى ما يقرب من أربعين في دراسة مناهج عقيمة، وما إن فتحت الجامعة المصرية كان أول الملتحقين بها سنة 1908، حتى شعر بأنه ملك الدنيا بيده لإطلاعه على العلوم الاجتماعية والسياسية وعدد من اللغات الشرقية مثل الحبشية والعبرية، وكان من أوائل المرشحين لبعثة مونبيلية في فرنسا عام 1914، وتقابل هناك بسيدته الأولى، تاج رأسه الذي تحلى به، ولعه الذي أصبح سجين فؤاده "سوزان" وأنجب منها أمينة ومؤنس. واستطاع "الأديب" أن يغوص في بحور الأدب دون أن يُعرف مرسى له، حتى الأدب الغربي سلبه حريته، فقد اطلع على معظمه، فبرع في الكتابة بسلوب سهل محافظًا على مفردات اللغة، فاستطاع أن يمزج وترًا بين كلماته والسطور المحفورة عليها حتى نشأت بينهما علاقة حب تنتهي عند نهاية كل سطر لتبدأ علاقة أخرى. وعاب على أدباء عصر طريق تفكيرهم التقليدية ودعاهم إلى أهمية توضيح النصوص العربية الأدبية حتى يكونوا قدوة للطلاب. تقلَّد "طه حسين" مناصب عدة وحاز على جوائز شتى، منها تمثيل مصر في مؤتمر الحضارة المسيحية الإسلامية في مدينة فلورنسا بإيطاليا عام 1960، وتم انتخابه عضوًا بالمجلس الهندي المصري الثقافي، واختير عضوًا محكمًا في الهيئة الأدبية الطليانية والسويسرية. ورشحته الحكومة المصرية لنيل "جائزة نوبل" عام 1964، ومنحته جامعة الجزائر الدكتوراه الفخرية 1965، وفي تلك السنة حصل طه حسين على قلادة النيل، وفي عام 1968 منحته جامعة مدريد شهادة الدكتوراه الفخرية، وتم ترشيحه من جديد لنيل جائزة نوبل، وأيضًا كان وزيرًا للتربية والتعليم في مصر. وكانت وفاة عميد الأدب العربي صدمة لقلوب من أحبه، فهوى بعده من عشقه حقًا، فلم يُعرف للكلمة مذاقًا بعده، فمات رجل البحث صاحب العقل الواعي والفكر المطلق، الرجل الذي أعطى للكلمة حريتها بفتح أسوار سجنها، حتى تكون حرة طليقة، مات طه حسين في 28 أكتوبر 1973 دون أن ينذرنا، صعدت روحه وحدها قبل أن يلتف حول محبوه ويتشبث بأيديهم ويلقي وداعه الأخير.