مصر فى المحيط الهادى

ميلاد زكريا

ميلاد زكريا

كاتب صحفي

على الخريطة الصمّاء، تبدو مصر مساحة من الأرض الصحراوية الصفراء يتخللها شريط بلون أخضر غامق، وعلى الأرض حين تكون مستغرقاً فى زحامها، لن ترى مصر سوى مساحة هائلة من الفوضى. وفى كلتا الحالتين فإنها تبدو كدولة موحدة. غير أن الواقع يطرح لتلك الجمهورية صورة أخرى من زاوية يسميها السينمائيون «عين الطائر»، والمقصود بها أن اللقطة تؤخذ من مكان عالٍ فتمنح الفرصة لرصد المشهد كاملاً بتفاصيل أكثر شمولاً. جزء من أزمة مصر التاريخية أن أحداً لا يراها من زاوية «عين الطائر»، كل شخص يراها من زاويته، لذلك غالباً يصل كل منا إلى طريق مسدود حين يحاول فهم ما يجرى، ويصبح عبثاً البحث عن أجوبة لأسئلة من نوعية: كيف يثور شعب ضد حاكم فاسد ثم يسلم دولته للإرهابيين؟ وكيف يثور شعب ضد قمع الشرطة ثم يصبح مناصراً لها فى القمع؟ وكيف يثور شعب من أجل الحرية ثم يناصر من يسلبها ويدافع عنه؟ وكيف يطالب شعب بالعدالة وهو أول منتهكيها؟ وكيف يطالب شعب بالمستقبل وهو يربط نفسه بجنزير إلى الماضى؟ من زاوية عين الطائر، سنرى مصر مكونة من 4 جزر منعزلة لا تعرف إحداها الأخرى: أولاً: الشعب فوضوى بامتياز، يرى الحرية فى أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء، يكره العمل لكنه يريد الرفاهية، رجعى ومحافظ لكنه يحارب من يمس ملذاته الخاصة، يكره النظام لكنه يشكو من غيابه، يكره الرشوة لكنه يبحث دائماً عن شخص مرتشٍ، يكره الفساد إذا كان فى مصلحة الآخرين، يطالب بتطبيق القانون ويشكو الظلم لكنه ينتهز أى فرصة لاختراق القانون. تركيبة عجيبة من المتناقضات يستحيل معها إقناعه بأن كل ما يفعله لن يؤدى إلى تحقيق أى من أحلامه. النظام: هو الراقص المتلاعب فوق حبل المتناقضات، يلعب على وتر أن الشارع لا يعرف ما يريد، بارع فى إهدار كل الفرص لصناعة المستقبل، بارع فى اصطناع خصوم صغار، لا يجيد حشد الطاقات وتوحيد الصفوف خلفه، يدرك أنه لولا الإرهاب لانفض الناس من حوله، لا يرى فى الشعب سوى أنه طابور طويل من البشر، وأهم ميزة فى الطابور أنه يبدو موحداً لكنه مفتت متشرذم، ويجب أن يبقى كذلك. النخبة: مجموعة من البشر بينهم أبرياء عاجزون يعرفون الداء لكنهم قلة غير مؤثرة، وأغلبيتهم تتعامل مع الوطن باعتباره سبوبة استرزاق، ومن هؤلاء سياسيون وأكاديميون وحقوقيون، هم فوق جزيرة العميان يتخبطون ويتصادمون ولا أحد منهم يعرف الطريق إلى جزيرة الشعب ولا إلى جزيرة السلطة. الإرهابيون: متطرفون حسب درجة كل منهم، بعضهم مستتر بالورع والتقوى إلى أن تحين الفرصة، وبعضهم حانت له الفرصة فصار إرهابياً باقتدار، هؤلاء أيضاً عميان لكنهم أيضاً صم بكم، لا يرون الحياة ولا يرون الله. 4 من الجزر المعزولة، تطفو فى محيط صاخب على هيئة دولة، تتقارب أحياناً لكنها لا تلبث أن تنفصل سريعاً، والجزر المتنافرة لا تصنع مستقبلاً.