«الوطن» تعيد نشر مذكرات رجل الصناعة الأول محمود العربي.. مسيرة بدأت بـ30 قرشا

«الوطن» تعيد نشر مذكرات رجل الصناعة الأول محمود العربي.. مسيرة بدأت بـ30 قرشا
- محمد العربي
- العربي
- وفاة العربي
- جنازة العربي
- القاهرة
- الوطن
- محمد العربي
- العربي
- وفاة العربي
- جنازة العربي
- القاهرة
- الوطن
بعد رحيل رجل الصناعة الأول محمود العربي، رئيس مجلس إدارة مجموعة العربي، أمس الخميس، عن عمر ناهز 89 عاما، أعلنت «العربي جروب» أنه ستقام صلاة الجنازة عليه اليوم عقب صلاة الجمعة، وذلك بمسجد العربي في قرية أبو رقبة بمركز أشمون بالمنوفية، ويقام العزاء الأحد المقبل 12 سبتمبر 2021، بعد صلاة المغرب في مسجد الرحمن الرحيم بشارع صلاح سالم.
وتعيد جريدة «الوطن» نشر مذكرات رجل الصناعة الأول محمود العربي، والتي سبق ونشرتها في العاشر من مايو 2015، بعنوان «الوطن» تنفرد بنشر مذكرات رجل الصناعة الأول محمود العربي ، وذلك خلال السطور التالية:
ولد رجل الصناعة محمود العربي يوم 15 أبريل 1932، في قرية مصرية صغيرة تسمي «أبورقبة»، تبعد القرية سبعة كيلومترات عن مركز أشمون بمحافظة المنوفية، انتقل إلي العيش في القاهرة، ولم يكن يتجاوز عمره 10 سنوات. طفل صغير، قليل الخبرات، متعثر الخطى، يمتلك حلماً براقاً كالكنز الخفي المخبوء، يعرف صاحبه يقيناً أنه بالغه، ولكنه لا يعرف أي شيء عن معالم الطريق الذي سيوصله إليه. كنت في العاشرة من العمر، تتأرجح مشاعري المتوترة بين الأمل والحيرة، بين السعادة، والخوف، بين الاستقرار والتشتت، لقد تركت أسرتي البسيطة لأول مرة، حتى أذهب للعمل في القاهرة الصاخبة، لعلي أتحصل من عملي ذاك على ما يجعل الحياة أجمل وأيسر لي ولأسرتي الصغيرة المتكاتفة المتحابة، وأنا في العاشرة فقط من عمري. فإذا سبقنا الأحداث، وألقينا نظرة على ما جرى لذاك الطفل بعد سنوات وسنوات، سنراه يرجع لنفس المكان، قرية «أبورقبة»، تاجراً مرموقاً، بل رئيساً لاتحاد غرف تجارة مصر، ورجل صناعة محترفاً، يجوب العالم بأسره، بحثاً عن أحدث صيحات التكنولوجيا ليأتي بها إلى مصانع «العربي» العديدة، التي قدر الله تعالى أن يكون موقع إنشائها ليس ببعيد عن مسقط رأسه بالقرية، ولكن، لم تكن تلك النقلة الواسعة ببعيدة عن ملكات ومواهب هذا الصغير، الذي أثبت مهارة وتفوقاً في أمور التجارة والبيع، منذ كان عمره خمس سنوات.
أولى الخطوات
كنا في شهر رمضان، وكنت قد جاوزت الخامسة بقليل، حين فاجأتني رغبة شديدة أن أسعى لكسب رزقي كما يفعل إخوتي أحمد وعلي جويدة، وكذلك شقيقي الأكبر محمد، الذي كان قد سافر للعمل في القاهرة من قبلي، قلت لأخي علي: «عاوز أشتغل واكسب، زي ما بتعمل أنت وأحمد ومحمد»، تعجب «علي» مما قلته، فقد كنت صغير السن للغاية، وليس من المعتاد أن يفكر من هو دون السادسة في العمل والكسب، فسارعت بإكمال كلامي: «أنا وفرت تلاتين قرش، عاوزك تشتري لي بيهم بلالين وبمب وحرب أطاليا، أحطهم فوق المصطبة اللي قدام بيتنا، وأبيعهم في العيد!». واستجاب أخي «علي» لطلبي، بل وشجعني عليه حين رأى الإصرار في عيني، لم أفهم ما الدوافع التي ساقتني للتفكير بهذه الطريقة، التي لم يكن لها سابقة بين أطفال العائلة! كيف واتتني الشجاعة أن أواجه أهل القرية، كبارها وأطفالها بهذا الأمر؟! لا أدري، المهم أنني قد فعلتها، والأهم، أنني ولله الحمد نجحت من المرة الأولى. مع نهاية العيد زاد رأس المال، فقد ربحت 10 قروش كاملة، حتى أصبح رأسمالي 40 قرشا، شعرت بسعادة كبيرة ورضا لا يوصف وأنا أبيع الشيء بأكثر من سعره الذي اشتريته به، وأحصل على أرباح. منذ هذا اليوم ترسخت في عقلي صورة ذهنية محببة عن فكرة التجارة، جعلتني أرتبط بها عمري كله، لم أنفق رأسمالي وما زاد عليه من ربح، بل ادخرته كله حتى اقترب عيد الأضحى، فطلبت من أخي «علي»، أن يعيد ما فعله أول مرة، ففعل ذلك وهو مسرور، رحمة الله تعالى عليه.
«أبي إبراهيم العربي»
«قول الحق، وماتخافش إلا من اللي خلقك!».. في هذه الجملة القصيرة، وبذلك التوجيه المركز، تتلخص الثقافة التربوية الفطرية لوالدي إبراهيم العربي، التي كان يبثها فينا ونحن صغار، إنها تحمل البساطة والتلقائية، القائمة على دعائم إيمانية صادقة، المنطلقة من الفطرة الإنسانية السليمة لأهل ريف مصر، كان الصدق والإخلاص والأمانة في معاملة «إبراهيم العربي» للناس من حوله، تشكل عجلة قيادة بين يدين قويتين، بفضل العمل في الزراعة، لقد نجحت تلك اليدان في تسيير سفينتنا الصغيرة نحو بر الأمان والعيش الكريم، منذ تزوج من أمي، وحتى لقي الله عز وجل.
أمي.. هانم
كانت سيدة ريفية بسيطة، تتسم بالصبر والقناعة، كانت تربوية بطبعها وفطرتها، توجيهاتها الأخلاقية نابعة من القرآن الكريم، كما كانت معظم الأمهات في ريف مصر، كانت مثل أبي تحثنا على الصدق والأمانة، وعلى الإحسان إلى المحتاج، ومساعدة الغير دون أن تنتظر مقابلاً لتلك المساعدة، كانت أمي تكثر من الدعاء لي ولباقي إخوتي، كأنها تستمتع بالدعاء طول الوقت، كانت فخورة بي بشكل خاص بسبب إتمامي لحفظ القرآن الكريم كاملاً، كانت السعادة الغامرة تلف أمي -رحمها الله- حين ترانا يداً واحدة، لا يفسد المال أو البنون حبنا لبعضنا البعض، كانت تذكرنا دوماً بألا نترك الدنيا تفعل في قلوبنا فعلها في كثير من البشر، خاصة حين تفتح لهم ذراعيها، وتمنيهم بالسراب الكاذب والسعادة الزائفة التي تتأسس على الطمع وطاعة النفس الأمارة بالسوء.
مغادرة «أبورقبة»
كانت أول مرة أغادر القرية في سفر طويل، لقد ارتبط مصيري بمصير بلدتي «أبورقبة»، وبرغم ابتعادي عنها منذ بلغت العاشرة واستقراري في القاهرة، إلا أن حبها لم يزل يدفعني دفعاً إلى زيارتها كل حين، حتى ولو صدر من بعض أبنائها ما يحزنني ويكدر صفاء حبي وولائي لها ولهم. القاهرة، تلك المدينة الكبيرة التي نسمع عنها قصصاً خيالية وأسطورية كأنها قصص ألف ليلة وليلة، وكان حلمي مجدداً وهدفي واضحاً، أن أجرب حظي في البيع والشراء هناك، وهذا ما أوصيت به أخي علي بشكل واضح لا لبس فيه: «أن يجد لي عملاً فيه بيع وشراء».
العمل الأول في القاهرة
في ظل كل الأحوال المثيرة المتناقضة، كان أخي «علي» يعمل في محل أقمشة «عبدالعزيز الديب» بالموسكي، مع أخي «محمد»، كان الموسكي أيامها ولعقود متوالية هو الحي التجاري الأشهر في مصر كلها، ومعه المناطق التجارية: بين الصورين، الأزهر، الغورية، والنحاسين، كان التجار يأتون إلى تلك المناطق من كل مكان في محافظات مصر، ليشتروا ما يحتاجونه من بضاعة وسلع، جاء لي أخي «علي» بعمل في مصنع عطور بالموسكي كان صاحبه صديقاً له، لم يكن مصنعاً للعطور في حقيقة الأمر، بل كان عبارة عن ورشة في محل صغير بالموسكي، يمتلكه الحاج «عبدالفتاح البلبيسي»، وكان عملي لا يتعدى إغلاق الزجاجات «بالفلة» بعد تعبئتها، ثم بالغطاء الأساسي، ثم لصق «تيكت» الماركة المسجلة، لم أتحمل هذا العمل لأكثر من شهر، سألني أخي عن السبب، قلت إنني جئت للقاهرة لأعمل في البيع والشراء، أريد أن أتعامل مع الناس وأعمل في التجارة، «أنا ماجيتش أقفل القزايز بالفلة يا علي!»، ضحك أخي «علي»، رحمه الله، ووعدني بمساعدتي في البحث عن عمل فيه بيع وشراء، بعد أيام من تركي للعمل في ورشة العطور، جاء لي أخي بعمل آخر في محل في شارع «أم الغلام» خلف مسجد «سيدنا الحسين»، كان يواجه باب مسجد «أم الغلام» الصغير، وبرغم صغر حجمه، فإنه كان مليئاً بالخردوات والأدوات المكتبية ولعب الأطفال الرخيصة والسجائر، كان ذلك ما أريده تماماً أن أبيع وأشتري. كان اسم صاحب المحل «عبدالرازق عفيفي»، ولكنه اشتهر باسم: عم رزق، من أول يوم عمل علمني عم رزق، رحمه الله، أهم درس أثر في حياتي التجارية كلها: الأحسن أن تكسب قليلاً، وتبيع كثيراً، واستمر عملي مع عم «رزق» حوالي سبع سنوات، من عام 1942 وحتى عام 1949، وبدأت العمل هناك بأجر 120 قرشاً في الشهر، وانتهيت بأجر 320 قرشاً، وكان أجراً لا بأس به أبداً لصبي في عمري، كان العمل يأخذ كل وقتي منذ وطأت قدماي مدينة القاهرة، كنت أبذل جهداً غير عادي سواء عند عم رزق، أو في محل النصر بعد ذلك، وكانت أغنيات «أم كلثوم» من الأشياء التي كانت تخفف عني وقع الإرهاق الشديد، كان الاستماع إليها في تلك الفترة ينسيني الكثير من هموم الدنيا وضغوط العمل. أذكر أنني عشت سنين أنتظر الحفل الشهري الذي كانت تقدمه «أم كلثوم»، وكانت تنقله الإذاعة المصرية على الهواء مباشرة، كثيراً ما تمنيت لو امتلكت ثمن التذكرة كي أراها وهي تغني علي المسرح، ولكن ذلك لم يتيسر لي في تلك الفترة، فقد كان ثمن التذكرة حوالي عشرة جنيهات، بينما كان راتبي في أحسن حالاته، وبعد أن مرت علي سنوات طويلة كبائع في الموسكي: 27 جنيهاً.
فاجأتني أمي أثناء إحدى إجازاتي في القرية بقولها: «محمود»، أنت كبرت ولازم تتجوز يا ابني!، «والحمد لله إن مرتبك دلوقتي ممكن يفتح بيت»، نفس هذه الفكرة كانت تراودني بإلحاح، ولكن من قبيل التأدب معها سألتها إن كان الأمر لا يزال مبكراً؟ فأشارت إلى استقرار أخي محمد مع زوجته في البيت، وأكدت لي أنني بالزواج سأركز أكثر في عملي، وسيوسع الله لي في الرزق، سألتها عن العروس التي تفكر فيها؟ قالت لي: «طبعاً هانم بنت الحاج عيد، هو فيه غيرها؟! مش دي اللي أبوك، الله يرحمه، اختارها لك». ولم أتردد، توكلت على الله تعالى، وأتممنا الزواج. استقرت زوجتي هانم في بيتنا بالقرية أيام الزواج الأولى، وبعد أن عدت للعمل في القاهرة، رجعت لبيت والدها، وكانت تأتي لتنتظرني في بيتنا مساء السبت، ونبقى سوياً حتى فجر الاثنين، حيث أرجع لعملي في القاهرة، سارت الأمور على ما يرام في سنوات زواجنا الأولى، رزقنا الله بأول مولود، سميناه على اسم أبي رحمه الله «إبراهيم» وأيضاً على اسم أول أبناء محمد شقيقي. كانت فرحتنا بإبراهيم كبيرة، وكان قدومه خيراً وبركة، فقد رفع الحاج عبدالفتاح راتبي قبل ولادته بوقت قليل، ليصل إلى ستة جنيهات وكان ذلك المبلغ جيداً أيامها، فكان يكفينا ولله الحمد، خاصة مع قدرات زوجتي على الاقتصاد والتوفير، وأيضاً مع رخص الحياة في الريف في تلك الآونة، بعد سنتين رزقنا الله بابنتنا «منى»، وتوقعنا رزقاً أوسع مع قدومها، فما يعتقده أهل ريف مصر أن مولد البنت يصحبه سعة في الرزق أكثر من الولد، ثم رُزقنا بفضل الله تعالى ممدوح، محمد، ماجدة، مصطفى، منصور، مدحت، وأخيراً محيي الدين. كانت زوجتي تشعر بالسعادة الكبيرة وهي وسط أولادها، وكانت تحب أن تحكي لأولادنا عن أيامها في «أبورقبة» قبل الزواج، وعن سبب تسميتها «هانم الحلاوة»، حيث كانت مدللة في القرية، وكيف كانت في طفولتها سريعة البكاء، إذا ما أساء أي شخص إليها، مهما كانت إساءة بسيطة. تعودت بعد أن تزوج عدد من أبنائنا وبناتنا، وقبل أن ننتقل لنعيش في مكان واحد، أن يتناول الجميع طعام الغداء في بيتنا بالعباسية يوم الأحد، وكانت ابنتنا «منى» تسكن في نفس الشارع، فكانت تأتي من الصباح، ثم تلحق بها زوجات أبنائي، ليساعدن في إعداد الطعام، كان ذلك التجمع يدخل السرور على قلبينا بدرجة كبيرة، حيث كنا نذكر معاً سنوات مضت من الجهد والصبر والعمل. أيضاً في رمضان، كانت هانم تحب أن نفطر معاً كل يوم، إلا إذا كان هناك التزام عند أحدهم. بدأت زوجتي رحمها الله رحلة مرضها يوم 6 رمضان الموافق 6 سبتمبر سنة 2009، أدخلناها المستشفى، وكانت رحلة عمرة رمضان قد حل موعدها، فسألتها إن كنت أذهب للعمرة أم أبقى معها؟ فحثتني على الذهاب لأداء العمرة كي ندعو لها، وبالفعل سافرنا، أنا وأخي محمد وابني محمد ومدحت. اتصل بي الطبيب بعد أيام قليلة وأبلغني خبر وفاتها، كان لذلك الخبر وقعه الأليم علي وعلي كل أفراد العائلة. قررت ألا نغادر الأراضي المقدسة حتى ننتهي من أداء العمرة في اليوم التالي، لنعمل لها عمرة، ونكثر فيها من الدعاء لها بالرحمة والمغفرة.
«الجيش والحرب واحتراف التجارة».. كل مواليد 1932 إعفاء.. إلا أنا
في نفس السنة التي جئت فيها بأسرتي الصغيرة إلى القاهرة عام 1954، طلبوني لأداء الخدمة العسكرية! كانت مفاجأة غير سارة نهائياً، كان عمري حينئذ 22 سنة، وكان لدينا من الأبناء إبراهيم ومنى، وكنت في هذا الوقت أعمل بشكل جيد ومستقر في شركة «النصر». ذهبت إلى قسم الجمالية يوم 27 أبريل 1954 «هذا يوم لا يمكن أن يمحي من ذاكرتي، إلا أن يشاء الله»، كتبوا خطاباً موجهاً لمركز التجنيد حيث يتم تجميع الجنود، بما يفيد أني هارب من أداء الخدمة العسكرية، ويجب أن أعامل معاملة الهاربين! حاولت أو أوضح لهم أني لست هارباً، بل سلمت نفسي فقط في مكان غير محل إقامتي المدون بالبطاقة «أي في قرية أبورقبة أشمون المنوفية»، حتى لا أعامل معاملة سيئة، ولكن لم يستمع إلي أحد، لما وصلت لمركز التجنيد ومعي الخطاب، أخذوني مباشرة وعاملوني بغلظة بصفتي هارباً من التجنيد، عاصياً للأوامر، ثم ألحقوني بسلاح «الأنوار الكاشفة». العجيب في الأمر أن الدفعة التي رفضتُ أن أساق معهم، أخذوا جميعاً تأجيلات! كتبوا لكل واحد منهم في شهادة الإعفاء: «لم يصبه الدور»، وبالتالي لم يؤدوا الخدمة العسكرية نهائياً، أنا الوحيد في كل الدفعة الذي أصابه الدور عام 1954! لقد تعلمت من ذلك الموقف الكثير، فطنت إلي كيفية سريان أقدار الله بين العباد، تعلمت ألا أعترض على القدر، خيره وشره، وتعلمت ألا أحاول التميز عن الناس من حولي، وكانت مدة خدمتي العسكرية بالتحديد 3 سنوات. في 1 أغسطس عام 1958، أنهيت الخدمة العسكرية، وعدت للعمل في شركة «النصر»، وهذا يوم لا ينسى هو الآخر، كانت الثلاث سنوات التي قضيتها في الجيش قد كونت لدي شعوراً بأهمية القوة، وأهمية أن يمتلك الفرد أسلحته، التي تمكنه من الدفاع عن نفسه بها، فلا ينتظر من الآخرين أن يأتوا ليحموه، بدأت في رفض فكرة الاستمرار في الوظيفة الثابتة، التي لن تصل بي إلى تحقيق طموحاتي الكبيرة، ولن تساعدني على أن أقدم العون والمساعدة لمن حولي ممن أحب، نعم، كنت أؤدي عملي بكل أمانة وحب مع الحاج عبدالفتاح، ولكن عقلي وذهني وكل حواسي كانت تبحث عن اليوم الذي سأترك العمل فيه معه، لنبدأ في تحقيق حلمنا التجاري الخاص، بدأت أنا وصديقي «عنتر عبدالوهاب» نحلم ونخطط معاً لأن يكون لدينا محل خاص، وأن نبدأ في شق طريقنا نحو إنشاء شركة تجارية خاصة بنا، ورغم أننا لم نكن نمتلك أي أموال لتحقيق ذلك الحلم، فإننا خلال فترة الزمالة الطويلة لم نتوقف عن الحديث حوله، وقد طرح «عنتر» علي فكرة أن نبحث عمن يمولنا برأس المال، ونحن نشاركه بالمجهود. في تلك الأيام، كان في مواجهة موقع شركة «النصر» مباشرة محل له خمسة أبواب اسمه «البرنسيس»، وكنت دائم الدعاء لله يومياً، حيناً في السر، وأحياناً عديدة بصوت عال: «يا رب.. مائة ألف جنيه ومحل البرنسيس!».
في عام 1964، أي بعد 6 سنوات من الزمالة والصداقة العميقة مع «عنتر»، ومع إلحاح الحلم المشترك بيننا، وجدنا ضالتنا في أخوين تاجرين في الصعيد، كان يتردد أكبرهما، واسمه «محمود عباس»، على الموسكي ليشتري احتياجاته من البضاعة، ليعرضها في المحل الخاص بهما في مدينة كوم أمبو، وافق الأخوان على تمويل المشروع، والمشاركة فيه بمبلغ 4 آلاف جنيه، كان ذلك يمثل مبلغاً كبيراً في تلك الأيام، سبحان الله، كانا هما أيضاً يبحثان بجدية عن فرصة للتجارة في القاهرة، فكان اتفاقنا معهما عادلاً: أن يدخلا معنا بالنصف، بحيث يكون لكل واحد منا 25% من الأرباح. كان افتتاح أول محل باسم «العربي»، في يوم الأربعاء 15 أبريل 1964 «نفس يوم ميلادي»، قبل عيد الأضحى بعدة أيام، يومها جاءنا حوالي 200 «بوكيه» ورد كهدايا. إنني على يقين من فكرة أن الأعمال الكبيرة إنما هي وليدة الإصرار على تنفيذ حلم كبير، تبدأ بفكرة بارقة محددة، تستقر في العقل لفترة حتى يضيق بها، وتبدأ النفس الإنسانية حين تكون ذات همة وطموح وتمتلك رصيداً من الأخلاق والقيم الراسخة، في السعي الدؤوب لتحقيق حلمها. بالنسبة لمراحل التصنيع في البداية سيطرت علي لسنوات طويلة الفكرة، حيث لم أستطع أن أكتفي بالتجارة فقط، نعم، كانت الحركة التجارية جيدة جداً في بيع الأدوات المكتبية والخردوات ولله الحمد، ولكني لم أتخلص من فكرة بيع منتجات من صنعنا، ولكنها ظلت لفترة مجرد أمل لا ندري كيف نحققه، وحين واتتنا الفرصة ووافقت الأقدار ما نحلم وما نطمح إليه، لم نتردد ولم نتأخر. بدأنا بخطوات قصيرة، لكنها كانت جادة وناجحة. في عام 1966، وبسبب حظر الاستيراد تماماً، بدأنا في تصنيع ألوان الشمع «ألوان الزيت الجاف»، حيث كانت مبيعاتها رائجة لطلبة المدارس والأطفال في مرحلة رياض الأطفال، في جميع أنحاء الجمهورية. وأؤكد هنا أن مبدأنا في الصناعة لم يتغير منذ تلك الأيام، أن نصنع ما نعرف كيف نبيعه، نبدأ بتجارة السلعة أولاً، فإذا نجحنا نبدأ في السعي لتصنيعها.
حين بدأ عصر الرئيس السادات مع نهاية 1970، اتجهت فيه كل موارد الدولة لصالح التجهيز للحرب مع إسرائيل، وتوقفت مصادر تجارة الكشاكيل والكراريس، ولم تكن تجارة الأدوات المكتبية الأخرى تكفي لتغطية التزاماتنا الكثيرة، وقد بدأت طائفة من التجار يدخلون أجهزة كهربائية إلى مصر عن طريق ليبيا والكويت والسعودية، وكانت أجهزة التليفزيون والراديو كاسيت في مقدمة تلك السلع، وكانت أغلبها أجهزة ماركات «ناشيونال باناسونيك» و«سانيو» و«سوني» و«أيوا» و«توشيبا». ولقد وصل ذكاء اليابانيين لما وجدوا السوق المصرية غارقة بالأجهزة الكهربائية اليابانية، أن بدأوا في تنفيذ حملات إعلانية في السوق المصرية، برغم حظر الاستيراد في مصر في ذلك الوقت، ودخول الأجهزة لم يكن عن طريق اليابانيين أنفسهم، ولكن المسوق الياباني الذكي ما يهمه -في النهاية- هو بيع منتجه، والحصول على ثقة المستهلك المصري، لقد رأيت في ذلك المسلك -وقتها- قمة في الذكاء التسويقي والترويجي، وكان ذلك في أعوام 1971، 1972، 1973.