الحلقة الثالثة : الحي الميت .. والميت الحي

الحلقة الثالثة : الحي الميت .. والميت الحي
عاد "عفيفي مطر" إلى عمله مدرّسًا للفلسفة، فيما انتقل "الشّهاوي" موظّفًا بقصر ثقافة كفر الشّيخ.
لكن مركز "الثّقافة البديلة" لن ينتهي بأفول مجلّة، أيًّا كان تأثيرها، إنّ بذرة الفكرة التي غُرست عميقًا في هذه التّربة أورقت، ولم تكن "سنابل" سوى فرع واحد قدّ بقسوة من شجرة الثّقافة الباسقة وارفة الظّلال، وهكذا صنع "الشّهاوي"، الموظّف المنقول للتوّ، من قصر الثّقافة ما يشبه "أكاديميّة للأدب تُعقد فيها المؤتمرات الحاشدة التي تتحدّث عنها كل مصر، ومن لا يُدعى إليها يشعر بأنه قد فاته الخير كلّه، وأحيانًا ما كان يأتي أناس لم توجّه إليهم الدعوة، كنا نصنع لياليَ ثقافيّة لا تقدر عليها وزارة الثّقافة، رغم أن الإمكانات الماديّة في ذلك الوقت كانت صفرًا". سيخصص "الشّهاوي" لياليَ سنويّة للاحتفال بذكرى صالح الشرنوبيّ، أنور المعداويّ، شاعر البراري محمد السيّد شحاتة، وكلّهم من رموز الإقليم الرّاحلين. سيحوز عليّ قنديل أيضًا على ليلة رابعة للاحتفال به بعد وفاته، وسيذهب الرّفاق كلّهم إلى هناك: "حلمي وأمجد وحسن وجمال وماجد والبقية". سيأتي الجميع ليتذكّروا عليّا، ويحاولوا إحياءه من جديد، والتحاور معه ومع قصائده، ويقرأوا قصائدهم إليه، لكنه لن يودّعهم مع حلول المساء.
إن "عليًّا"، الذي لا يكتفي بالمهرجانات السّنويّة الحاشدة حتى لو تحدّث عنها الجميع، كان يحاول أن يقنع "الشّهاوي" بتأسيس جمعيّة أدبيّة داخل قصر الثّقافة، على أن يكون من حقها عقد ندوتها أسبوعيًّا وإصدار المطبوعات التي تعبّر عن أعضائها وتتبنى إبداعهم. "الشّهاوي" الوحيد القادر على تنفيذ هذه الفكرة بحكم وظيفته الرسميّة، لكن "عليًّا" يعرف خطورة ذلك في ظل المناخ المستريب المشبّع بتقارير المباحث، المناخ الذي أغلق "سنابل" قبل عدّة أشهر: "إن الأمر ليس سهلاً كما تتصوّر". أما الأخير، الغافل عن كلّ ذلك، الشّاعر صانع المهرجانات الأدبيّة الخالصة لوجه الثّقافة، والذي لا يعرف أن الأشياء الصحيحة لها أعداء ولو لم تشكّل خطرًا واضحًا، فسينبري للحصول على موافقة محمد الدّيب، مدير القصر، على طلب الرّفاق تأسيس الجمعيّة، والذي حرّره "عليّ" بخطّ يده.
جماعة "حوريس": "أهلا بكم في جزيرة الشّعر والمغامرة"
ولأن "الدّيب" يثق دائمًا في "الشّهاوي" فقد وقّع الطلب على الفور، لكنه، تحوّطًا مما تثيره كلمة "جمعيّة" في ذلك الوقت من شبهة وجود تنظيم سريّ يعمل تحت ستارها، كتب في ذيل الطلب: "أقترح أن تكون ناديًا للأدباء وليس جمعيّة، وشكرًا". هكذا تم تأسيس نادي الأدب بقصر ثقافة كفر الشّيخ. فبراير 1973. الحرب تقترب لا محالة، و"السّادات" استهلك كل التوسّلات الخارجيّة لإرجائها، وكل التبريرات والحجج المنطقيّة والسّاذجة بالدّاخل. في هذا المناخ الذي يحبس الأنفاس، ويصنع من أيّ تجمّع، أيًّا كان، مؤامرة محتملة، بدأ نشاط جماعة "حوريس" الأدبيّة، التي وضع عليّ قنديل بيانها التأسيسيّ:
"انطلاقًا من فعالية الكلمة- البندقيّة، وبدءًا بما لها من دور مقدّس في تركيب شخصيّة الأمم والإنسان، وتأكيدًا في وجوب المشاركة النضاليّة والبناءة في الصراع التاريخيّ الذي تخوضه مصر اليوم، وأملاً في عبور ليل اليأس، إلى إشراقة البعث وشرارة الانطلاق إلى غابات الغد المبتسمة، تكوّنت جماعة "حوريس" الأدبيّة تغامر في بحار اللّفظ، وتبحث في الشّواطئ الواعدة، وتركض بالحلم في تربة الحياة الأدبيّة منذ مدة غير قليلة.. كفر الشّيخ. هناك أصبح القلم شراعًا، والقصيدة وردة صبوحًا، والكلمة أمًّا تربّي وتجتاز الأبعاد، هناك اختصرت مصر كلّها في لقاءات أدبيّة، تحاور فيها الأدباء من مختلف الأقاليم، وغنوا ملء الحناجر، مصر التي تتهيّأ، ومصر التي تبدأ، ومصر التي تعبر، وفي هذه الجماعة النّابضة كلّ يوم بلغة جديدة نبدأ بهذه الأسماء:
محمد محمد الشهاوي، أحمد سماحة، علي قنديل، عبد الدّايم الشّاذلي، تاج الدّين محمد تاج الدين، عاطف بشاي، عبد الدّايم دومة".
وبجوار كل اسم كتب "عليّ" تعريفًا قصيرًا بالكاتب ومنجزه حتى ذلك الحين. وفي ذيل القائمة أشخاص دون تعريف، هم مجموعة الأدباء الهواة: علي عفيفي، إبراهيم قنديل، سعاد نصر، عطيات، حجازي. أما الأخير فهو حجازي شريف، من بلدة "حوين" المجاورة، والذي سيصبح "أبو إسحاق الحوينيّ" في المستقبل البعيد.
حول الأجواء التي تأسّست فيها جماعة "حوريس"، يقول السّيناريست، عاطف بشاي: "كانت هذه المدينة الهادئة قليلة السّكان تحظى بنشاط ثقافيّ ضخم في أوائل السّبعينات، ليس فقط على مستوى المهرجانات والندوات الأدبيّة الحاشدة، فقد كانت هناك فرقة مسرحيّة، وكان يعيش بين أهاليها مجموعة مهمّة من الفنّانين التشكيليّين والشّعراء الكبار".
كان "عاطف" الشّاب يتردّد على قصر الثّقافة لحضور الندوات، وهناك شاهد "عليًّا": "كان وديعًا يشبه الملائكة، نموذجًا لا يتكرّر في براءته وشفافيته وصدقه. وكانت لديه طموحات هائلة، ويسبق جيله بسنوات في الوعي والثّقافة، كما كان متواضعًا لا يكفّ عن المناقشة والتعلّم، ولا يقلّد أحدًا. وهو صاحب إيقاع مميّز، وحسّ حزين يغلّفه شيء من الحكمة الغريبة على شاب في مقتبل الحياة. لك أن تتصوّر بيئة متوسطة يكدح فيها النّاس من أجل لقمة العيش، ثم يبرز بينهم شاعر. الشّعر نوع من الترف في هذه البيئة. لكنّه استطاع أن يرضي الجميع ويحقّق المعادلة".
ظل كلّ أفراد المجموعة ينشرون إبداعهم في الصّحف مذيّلاً بـ"عضو جماعة حوريس الأدبيّة" وألقى الشّاعر محسن الخيّاط، محرّر زاوية "أدباء الأقاليم"، ضوءًا على نشاطهم في صحيفة "الجمهوريّة"، وفي ذلك الوقت كانوا يستعدّون لإصدار عمل أدبيّ مجمّع لإبداعهم، ووضع عليّ قنديل خطّة النشر، تكاليف الطّباعة، وجدولاً زمنيًّا لإصدار العمل الذي لن يصدر. وبصوته الوقور الهادئ واضح النّبرات، كان "الشّهاوي" يفتتح لقاء الجماعة الأسبوعيّ: "اللّيلة تصطف الكلمة إلى الكلمة، عقدًا من ثمرات وإشارات، وتنفتح الكلمة في الكلمة كوّاتٍ من ضوءٍ غائر ومفاتح ذهب. معكم نجد مكانًا في عالمنا الملّوح من بعيد، ومعكم نسافر إلى القارات التي تكوّنها أحلامنا، ونطّلع على ضمائرنا الخضراء. ولكم تهتف ترحيبًا بصنوفها الأخوّة، ويسعد قصر الثّقافة بكفر الشّيخ بكم، على أن أملنا في ما تثمره مثل هذه اللّقاءات أكيد، ومنذ زمن يورق فينا شوقٌ للتحاور معكم، والرحيل لكم وبكم إلى جزيرة الشّعر والمغامرة".
في هذه الجماعة، التي اختار لها اسمها، كان "عليّ" المرشد والقائد ومدوّن الاجتماعات، وواضع الخطط والأفكار وجداول السفر والزيارات، رغم أن وجوده في المدينة الريفية البعيدة كان مؤقتًا بحكم الدّراسة في الجامعة:
كتب لـ"الشّهاوي" مازحًا: "تصلني أخبارك مع الزّنديق "الشّاذليّ"، وهذا يقرّب مسافة البعد (على قدرها)، لقد نجحت مساعينا ونلت ما تريد، وانخلعت من وجه (الإخص)، وتاب عليك ربنا من رؤية سواد وشّه أو تعكير المزاج لمجرد وجوده، وبقيت مساعيك في أن تلوّن وجوهنا باللّون الأبيض الفاقع، وتطيل رقابنا (إلى القدر الذي أطاله الله في رقبة الشّاذليّ). يعني بالعربيّ أن تداوم على الحضور، وتجعل لك وجودًا مستديمًا ثابتًا كرئيس لجماعة أدبيّة محترمة، ومسئول حكوميّ عن جزء مهم في قطاع ثقافيّ خطير".
وكتب لـ"الشّهاوي" معاتبًا: "ولقد وصلتني- يا قليل الذّمة يا عديم الملّة- أول الأخبار المنيّلة المملّة، وهي أنك أضعت دفتر الاجتماعات، وفيه خلاصة ما كتبت أنا من جهدي، فهل هذا عهدي؟ إن نسيت لا أنسى أنك أضعت الدفتر، يا سيّئ المبطن والمخبر".
وعندما ناوش الأمن أعضاء الجماعة، وألقي القبض على "الشّهاوي" على خلفيّة مجلّة الحائط التي علّقوها باسم "حوريس" في مدخل قصر الثّقافة، كان عليّ قنديل بعيدًا أيضًا: "ماذا يقول المرء لك يا شهاوي، لقد أسقطني ذلك النّبأ في هوّة من الدوار والانسحاق الخاص، الذي لا يشعّ إلى الخارج. كلّ نيران الحالة كانت موجهة لي وحدي. اغفر لي خوفًا تملّكني على أنك ستخرج من هذا الخطب كافرًا بي وبالآخرين، مأخوذًا إلى آخر الدهر. واغفر لي حيرة تقتل: كيف نتصرّف؟ كيف حتى أقابله بعدها؟ أي مارد من اللّهيب يمكن إن يوجّه إليه؟ .. إلخ.
الآن، لا تشفع ألف قبلة ولا يبدّل حالنا الأوّل رقص إلى الفجر. كلمة واحدة في ذاكرتي ليست بفاسدة: "الحمد لله على سلامتك". وفي ذيل الرسّالة: "بلادٌ ألفناها على أيّ حالةٍ وقد.. يُؤلَفُ الشيءُ الذي ليس بالحسن/ وتُستعذب الأرض التي لا هوى بها.. ولا ماؤها عذبٌ ولكنّها وطن".
الطريق إلى "الشّهاوي" يبدأ وينتهي من "عين الحياة"، قريته الصغيرة جدًا بمركز قلّين، لا أعرف من أين استمدّت القرية اسمها الجميل، أسأله: "لا أعلم، بعض النّاس كانوا يظنون أنني اخترعته". "الشّهاوي" طاقة هائلة من السّماحة وعفّة النّفس والإيمان. وحتى في رقاده الطويل المؤلم، لا يشبع من الفرح بالأولاد الذين يأتون. كم كان عليّ قنديل يحبّه بشدة، ولعل مشكلات جماعة "حوريس"، التي شكّلها "عليّ" وترأسها "الشّهاوي"، تركت شوائبها في نفس الأخير الرّقيقة بالغة الحساسيّة:
"أخي الحبيب محمد الشّهاوي: أظل أنظر إليك من أسفل، فأنت فوقي وفوق الجميع بنبل سريرتك، بنقاء وجدانك، وبالحبّ الكبير الذي يحمله قلبك معنىً وبطولة.
تقول لي الوساوس بأنني قد أكون انزلقت في مجموعة من الأخطاء تجاهك في الفترة السّابقة، ربما سقطت مني مواقف، أنا بالقطع لم أدرك أبعادها وصداها في هذه الأوقات. وتقول لي الوساوس ربما يكون كلّ شيء قد مرّ بسلام، وانطوت الأيام بأحداثها تحت مخدّات اللّيالي، ولكن قلبك أنت ساهر قلق، ربما أرّقك لفظ أو أدمعتك حادثة، فيا ويل عيني إن أكن قد قمت بدور في هذا وأنا جاهل مندفع أحمق.
هل يبرّرني أنني أستقر عند أمان شاطئك، ويستريح طيشي ومراهقتي عند صدرك الذي وسع كلّ شيء، فلا أزال في صخب وشرود، وانخفاض وعلوّ، مطمئنا- كالموجة- على أن كفًا حنونة سوف تستقبلني برأفةٍ في النهاية؟
أم يبرّرني، وهذا ما لا أرجو أن يبرّرني، أن من أعيش وسطهم من شخوص قد تنافروا في السعيّ وتفكّكوا، فأضحى كلّ شيء بينهم خطأ وامتدادًا لخطأ، وفي داخل هذه الحلبة لا تصح الطلعات السّليمة؟ وعلى أيٍّ فإن العطاء الذي تسخو به على كلّ العالم لن ينحرف عنّي، وإن بحيرة قلبك الرّحب سوف تغسل عني كلّ سوءة.
أسافر وأنا ناظر إليك من أسفل، وهكذا يفعل كل من يدق عقله بنبض قويم، ويتصرّف فؤاده بقدر سليم، ولا أحسبني غافرًا لنفسي ما ارتكبته- غافلاً- من ذنوب، ولا أحسبك معرضًا عن الثقة في هذا الكلام".
رسالة إلى "الشهاوي" 20 أغسطس 74
كان "الشّهاوي" أبًا روحيًّا بكل معنى الكلمة بالنسبة لعليّ قنديل، الذي يحتفظ بتقدير بالغ أيضًا لمحمّد عفيفي مطر، وإن كان يخاطبهما معًا باسمهما المجرّد "شهاوي، محمّد"، لكن، أين كان "مطر" في مرحلة ما بعد "سنابل"؟
لم يحضر الشّاعر الكبير مرّة واحدة إلى نادي الأدب، بل كان بعيدًا تمامًا عن جماعة "حوريس" وناديها. لم يكن، وهو عرّاب المجموعة الحقيقيّ، واحدًا من أفرادها. في الجهة المقابلة، يذكر أحمد كامل، محام عماليّ، أحد كوادر الحركة اليساريّة في السّبعينات، أن "مطر" كان يأتي ليقول أشعاره في معسكرات منظّمة الشّباب بحلوان، وأنهم للوهلة الأولى حسبوه على القيادات في الاتحاد الاشتراكيّ، وتعاملوا معه باستهانة، ثم لم يروه بعد ذلك.
إن المجموعة المثقّفة في مدينة كفر الشّيخ لم تكن متّصلة بالسّياسة بمعناها المباشر: التنظيميّ، الحركيّ، التحريضيّ، لكنها تعاطتها فقط من خلال إبداعها، فالقصائد مسيّسة بالضرورة حتى لو كانت قصائد حبّ، وهو ما أثار الأمن لمطاردة وتشتيت أصحابها. إن "كل نظريّات الدّولة الاستبداديّة، كما يقول "أودن"، بدءًا من أفلاطون فنزولاً، ارتابت ارتيابًا شديدًا بالفنون، فهي تلاحظ وتقول أكثر مما ينبغي ملاحظته وقوله، وعندئذ يبدأ الجيران بالكلام".. "جايمس فانتن: قوّة الشّعر. ترجمة د. أحمد درويش".
بمفهوم المخالفة- إذا استعرنا مصطلح الأصوليّين- يكون عفيفي مطر هو الذي ألقى بنفسه في المراجل الحارقة، وتكون السّياسة هدفًا في ذاتها ولذاتها، انطلاقًا من النّزوع الراسخ حول الزّعامة: جيليّة، تاريخيّة، سلفيّة، تجريبيّة، وكم يخسر الشّاعر عندما يضع نفسه موضع الزّعيم، فالزّعيم يواجه الجماهير، لكنه لا يرى سوى صورته، ولا يسمع سوى صوته. والشّاعر، إذ ينسحب من الحياة وينطوي كبرديّة على نفسه ويكلّم كائناتٍ أخرى، فإنه يضع الجماهير دائمًا نصب عينيه، حتى لو تصوّر وادعى وكتب غير ذلك.
تحمّل "الشّهاوي" عبء موقفه بشرف. لم يغادر "عين الحياة"، المدرجة حديثًا ضمن القرى "الأكثر احتياجًا". فيما انطلق "مطر" هاربًا في العواصم، تطارده الوساوس، وتدرجه الأنظمة ضمن حساباتها المعقّدة.
كان "الشّهاوي" مخلصًا للأدب، فطالته جمرة السّياسة من هذا الطريق. أما "مطر" فقد خاض حروبه الخاصة، من طرف واحد، مع الجميع دون تمييز: قدماء ومعاصرين، ومع السّلطة: في الماضي والحاضر على السّواء، تحرّكه الهواجس الأمنيّة السوداء: "كان يعيش هو وزوجته، رحمة الله عليهما، رعبًا ليلاً ونهارًا من حاجة اسمها أمن الدّولة، رغم أنني لا أعرف عن عفيفي شيئًا يفزع على الإطلاق".
أما السيّدة نفيسة قنديل، قرينة "مطر"، فهي ليست امرأة عاديّة. لقد كانت زوجة "العرّاب" القارئة والمثقّفة وصديقة الجميع. واحدة من هذا المجتمع المثقّف البعيد في عمق الدلتا. في ليلة هروب "عفيفي" إلى العراق، والوقت أواخر السّبعينات، زاره الشابّان: عليّ عفيفي، شاعر، وإبراهيم قنديل، قاص، كان الشّاعر الكبير غائبًا عن المنزل بينما جلست "نفيسة" وحدها تبكي. قالت إن زوجها غادر ولن يعود. وهنا قرّر الشابّان السّفر إلى القاهرة فورًا لتوديع الشّاعر. اندهشت "نفيسة" لأن الوقت كان متأخرًا للغاية، لكنها حمّلتهما رسالة قصيرة "من كلمتين" إلى زوجها البعيد.
كان "مطر" يبيت ليلته الأخيرة في شقة "الأبنوديّ" وزوجته "عطيّات" بالزّمالك، على أن يغادر إلى السّودان بصحبة الأبنوديّ وإبراهيم أبو سنّة في الصّباح، للمشاركة في مؤتمر شعريّ. ولكن "مطر"- الذي خطّط للهروب إلى بغداد من هناك- لن يعود برفقتهما بعد انتهاء المؤتمر.
سافر الشابّان بخطاب "نفيسة" إلى القاهرة ليلاً، وعندما وصلا إلى منزل "الأبنوديّ"، سلّماه لـ"مطر"، وكان مكتوبًا فيه أن "لا تغادر". لعلّها المحاولة الأخيرة اليائسة لإثنائه عن الخطوة. لكن قرار "العرّاب" كان نهائيًّا وحاسمًا وصعبًا على الجميع، بمن فيهم هو نفسه، وعليه تتحدّد المصائر في البعيد.
مطر والشّهاوي
ستعاني "نفيسة"، بعد سنوات طويلة من تلك اللّيلة، مرارة اعتقال وتعذيب زوجها الشّاعر الكبير، أواخر التسعينات، بتهمة محاولة التأسيس لتنظيم بعثيّ. وعقب وفاته، ستلقى حتفها مقتولة في حادث سرقة داخل منزلها بقرية رملة الأنجب، مركز أشمون، فجر يوم 19 مارس 2019.
كان "مطر" يعرف يقينًا، في ذلك الزمن، ما الذي تعنيه نار السلطة إذ تقترب من المثقّف في صورة مداهمة ليليّة معادة مئات المرّات، أو يقترب المثقّف منها أملاً في المزيد من الوهج والحضور، لكنه سرعان ما يحترق في أتونها كفراشة غبيّة. وفي الحالين فإن السّلطة مرعبة حقًّا بالنّسبة لشاعر كبير في حجمه، الاقتراب والابتعاد خياران كارثيّان في آنٍ واحد، ما العمل؟
الهروب إلى سلطة أخرى كالمستجير من اللّهب بالذوبان في لهب آخر.
كم تمنيّت لو بقى "عفيفي" في أيّ مكان يريد، بشرط أن يكون داخل الوطن، وأن يبتعد فعلاً عن هذه الشّمس المبهرة التي تدعى السلطة. وددت كثيرًا لو واصل "حرب المواقع"، على طريقة "جرامشي"، مع السلطة الثقافيّة في العاصمة، تلك الحرب التي كان يجيدها بجدارة، ولعل تجربة "سنابل" لا تزال شاهدة على ذلك. وأعرف عنه عفّة النّفس، وعزة الشّعر، والتعالي على طرق أبواب المؤسّسات، وحماسه الهائل للشّعب والحقيقة، كما أثق تمامًا في انتصاره، لأن الأشياء الصحيحة لابد أن تنتصر في النهاية. هل كان سيتعذّب؟ بالتأكيد، لكنه لن يُعذّب، فما أقسى أن نتصوّر الشّاعر تحت وطأة التعذيب.
إن "زهرة اللّوتس ترفض أن تهاجر"، هو عنوان سيرة "الشّهاوي" التي ضاعت، مع ثماني دراسات أخرى عن رفاقه فُقِدت بعد أن كتبها، منها واحدة حول عليّ قنديل: "كونشرتو الإمكان". لا سبيل إذن لاستعادة السّيرة واستعادة الرّفاق الراحلين. لعل السّطور السّابقة قدّمت بعضًا من ملامحهم في ذلك الزّمن البعيد.
ها نحن استسلمنا للتداعي، وتركنا أمر الرّجل والشّاب اللّذين ينتظران "الشّهاوي" على رصيف قصر الثّقافة، لقد غاب الشّاعر بالداخل أكثر من المعتاد، وليقطعا الوقت، ترجّل "عليّ" و"مطاوع" متمهليْن على رصيف الشّارع الهادئ، الذي تقع على ناصيته "صيدليّة الشّعب". ما إن تجاوزا سلالم القصر حتى انخرطا في حديث، هو الأخير بالنّسبة لـ"عليّ"، الذي سيموت عمّا قليل كما نعرف، أما "مطاوع"، الرّفيق الذي يقود "عليًّا" إلى الموت في تلك الظّهيرة البعيدة، فهو بلا شك يستحق منا وقفة قصيرة متأمّلة.
تعتمد التراجيديا الموجزة التّالية نصًّا على كتابيّ عصمت داوستاشي "عبد المنعم مطاوع.. أنشودة ضدّ الضياع"، وعزّ الدّين نجيب "فنّانون وشهداء"، هيئة الكتاب 2017، 2019. "عصمت" هو صديق الفنّان الرّاحل ومستودع أسراره وزميله في كليّة الفنون، أما "عزّ الدّين" فهو مدير قصر الثّقافة الذي استقبل "مطاوعًا" عام 1966:
"إذا كان رحيل أمه مبكرًا جدًا هو سبب الشّقاء والحزن والحرمان من الحنان والحب في طفولته، وإذا كان حبه الأول والأخير قد سُحق بيد حبيبته وهي لا تشعر به أصلاً، فإن عبقريّته الفنية التي تفجرت في مرحلة دراسته للفن كانت سبب تدميره النفسيّ، بعد أن جعلته موهبته الأوّل على دفعته بقسم التصوير بكليّة الفنون الجميلة بالإسكندريّة، في أول دفعاتها أوائل الستّينات، وأصبح بفضلها محط أنظار جميع زملائه. بل وأشعلت غيرة بعض أساتذته، إذ يشاهدون الطلبة ملتفين حوله مبهورين بقدراته الفذّة كرسّام ومصوّر وشاعر وشخصية كاريزميّة ملؤها الثقة والاعتداد بالنفس.
لم يستطع كبير الأساتذة المنتفخ بذاته ومنصبه، كرئيس لقسم التصوير، أن يتحمل معارضة الطالب "مطاوع" لرأيه أمام الطلبة لتأكيد استقلاله والدفاع عن أسلوبه، بل تجرّأ وأعلن أمام كبير الأساتذة أنه يفضّل أسلوب الفنان سيف وانلي، الذي كان منتدبًا للتدريس بالكلية على غير هوى رئيس القسم، رغم أنه لا يملك مؤهلا أكاديميًّا أو لقب دكتور، ولما كان مطاوع مرشّحًا للتعيين، بعد عام واحد، كمعيد بالقسم ضمن أوائل أول دفعة تخرّجها الكلية، كان لابد من كبح جماح هذا الجواد، هذا الطاووس المنذر بعواقب وخيمة على النظام الأكاديميّ المستتب، ولن يتأتى ذلك إلا بكسر أنفه على مرأى من الجميع، للحيلولة دون تعيينه بعد عام واحد. هكذا دوّى صوت صفعة هائلة على وجهه بيد كبير الأساتذة، ارتج لها قسم التصوير، وسط ذهول وصمت رهيب لكل الطلبة.
قضى "مطاوع" بعد هذه الواقعة عامًا كاملاً لا يغادر مسكنه، وانقطع تمامًا عن الكلية، ثم تكاتف الجميع وأقنعوا الأستاذ، حامد عويس، صاحب الصفعة القاتلة، بالذهاب إليه والاعتذار له، وعندما عاد في العام التالي كان هدف الأستاذ الآثم قد تحقق، وضاعت على الضحية فرصة التعيين كمعيد، وكان التعيين بالكلية يعني بالنسبة إليه كل مستقبله، هو الفقير ابن تاجر البقالة في مدينة دسوق. ومع ذلك استطاعت موهبته الفارقة أن تشق جدار الفشل الحجري الذي شيده أستاذه، وهكذا نجح في البكالريوس في العام التالي، متخلفًا عامًا عن زملاء دفعته، بتقدير امتياز، وهكذا استمر يواصل دراساته التجريبية من خلال المنحة الداخلية بمرسم الأقصر، التي كانت تقدمها كلية الفنون الجميلة بالقاهرة للمتفوّقين لمدة عامين، وكان مطاوع مغرمًا بمدينة هابو، القريبة من مرسمه. كان يصعد قبل الغروب فوق أحد الأعمدة المحطمة في قاعة الأعمدة الضخمة لينشد لرفاقه أغنيته الجميلة إلى حبيبته التي راحت، والتي لم يحب بعدها امرأة أخرى أبدًا. وفي أحلامه كان يحاور ويجادل كل من أحبهم من فناني العالم: بيكاسو، فان جوخ، ماتيس، سيزان، دافينشي، مايكل أنجلو، بول كلي، سيف وانلي، وغيرهم، كان يحكي هذه اللقاءات بالتفصيل وما دار فيها من حوار لو كتب لكان عملاً مدهشًا ورفيعًا من أعمال الفن.
"مطاوع" 1980
كانت أيام "مطاوع"- وهو ابن عم الفنان الكبير الرّاحل، كرم مطاوع- في الأقصر هي آخر الأيام الجميلة في حياته، بعدها عيّن في قصر الثقافة بمحافظة كفر الشيخ، لا يكفيه مرتبه المتواضع، كان يمر عليه أحيانا يوم وليلة بدون طعام، بعد أن تبتلع السجائر والدائنون مرتبه الصغير في أوائل الشهر، وفجأة انهار كل شيء مع دوي هزيمة 5 يونيو 67، وبينما كان الجميع يتشوفون الأخبار، كان "مطاوع" يجلس منطويا على نفسه، يدور فيما حوله بنظرات زائغة، ثم يهب مكشر الوجه ويدور من حجرة إلى أخرى، وكأنه يبحث عن شخص لابد له من عقاب".
أجهزت الهزيمة على ما تبقى من "مطاوع" الحيّ، وبدأت فترة احتضاره الطويل الذي امتد خمسة عشر عامًا لم يغادر خلالها مدينة كفر الشّيخ، ولا وظيفته الصغيرة بقصر الثّقافة، الذي انتقل أيضًا للإقامة بإحدى غرفه، نتيجة الفقر، كان يرسم بأردأ الخامات، على ورق كارتون، أو خشب حبيبيّ سريع التّلف، يرسم أحيانًا على الحوائط، أو يترك اسكتشاته في كلّ مكان يذهب إليه، غريبًا تائهًا على الدوام. تلك كانت حاله في هذا اليوم البعيد، الذي اصطحب فيه عليّا، الشّاعر طالب الطّب، الذي يبحث عن كهرباء جديدة، إلى حتفه.
"مطاوع"، الذي لا تملك متاحف مصر لوحة واحدة له، هو ابن زمن الكارثة، زمن الفقراء الذين كان يحدوهم الحلم فاحترقت جسومهم بسياط الثّورة المضادة، كما احترقت أرواحهم الهائمة في الفضاء بنيران المدافع وقذائف الطّائرات المعادية. لقد كان فنانًا حقيقيًّا بلا أيّ ادعاء، جزءًا من عبقريّة هذه الأرض حين تعطي الثّمار فيسقِطها الزّيف والاستعلاء والتّعفّن البشريّ. هل كان وقتها يحدّث عليًّا، الشّاعر الذي يصغره بثمانية عشر عامًا، بخلاصة وحكمة المأساة التي يعيشها؟ هل كان يحكي له عن مجادلاته الأخيرة مع بيكاسّو وسلفادور دالي وسيف وانلي وفان جوخ وماتيس وسيزان؟ أم كان يتلو إحدى قصائده الجديدة التي ضمها بعد ذلك ديوانه الوحيد "لزوميّة الصّمت"، لقد كان "مطاوع" شاعرًا أيضًا مثل رفيقه الصّغير، سيتولى صديقه "عصمت" طباعة الدّيوان بعد وفاة صاحبه. وها هما الآن صاحبا الدّيوانين الوحيدين، اللّذان لن يشهدا أبدًا صدورهما، يسيران معًا حين دهمت سيّارة جيش عائدة إلى الخلف عليًّا بجسمه الضئيل- 60 وبضعة كيلوجرامات- فانحشر بين صندوقها المعدنيّ وبين عمود الإنارة دون أن ينتبه السّائق.
"الشّهاوي": "لم يكن به على الإطلاق أيّ شيء ينذر بالنّهاية.. لكنه سريعًا ما مات"
الغريب أن عليًّا لم يُصَب بجُرح، لم تكن به كدمة واحدة، بل ظل واقفًا حتى بعد مغادرة العربة التي دهمته، وإن شعر بصعوبة في التنفس وقليل من الإعياء، ما دفعه للتوجّه إلى الصيدليّة التي تقع على الرّصيف المقابل.
طلب "عليّ" من الصيدليّ إعطاءه "كورامين": نقاط تؤخذ بالفم لإنقاذ المغمى عليه وفاقد الوعي ومصابي الأزمات القلبيّة. إن "عليّا" يعرف جيدًا من تركيبة الدّواء، أنه مجرّد فيتامين لا يستعيد المحتضرين من الموت بمجرد ابتلاع النّقاط التي أنتجتها شركة "سيبا" السويسريّة، منتصف القرن الماضي، وسرعان ما صارت بمثابة "إكسير الحياة" في السّينما العالميّة. لقد كان يجهل مؤكدًا أنه مصاب بنزيف داخليّ سيقضي على حياته خلال ساعة واحدة، وإلا ما تعامل مع الأمر بهذا الاستخفاف البالغ. لكن صاحب "صيدليّة الشّعب"، الذي رأى الحادثة من موقعه في الداخل عبر زجاج الفاترينات، كانت له وجهة نظر أخرى.
قال إن الأمر قد يكون خطيرًا، وإن عليه الذهاب إلى المستشفى لفحصه، وحتى عندما أنبأه "عليّ" بأنه يدرس الطبّ ويعرف أن حالته لا تستوجب كلّ ذلك القلق، لم يقتنع الصيدليّ، وأصر على عدم إعطائه الدّواء الذي يريد، لكي لا يتحمّل تبعات ما سيحدث. وهكذا خرج "عليّ" إلى الشارع من جديد، لكنه وجد أن قواه الجسديّة بدأت في الانهيار، وإن ظل عقله يقظًا وكلامه مرتبًا. قطع "عليّ" و"مطاوع" المسافة القصيرة حتى قصر الثّقافة عائدين إلى "الشّهاوي"، وكان فرغ للتوّ من مهامه، ليجد "عليًّا" خائر القوى في بهو المبنى. لم يكن هناك أحد سوى "مطاوع"، الذّاهل عن الناس والحياة بكاملها، و"المغربيّ"، عامل الورديّة الليليّة بالقصر. ما الذي حدث؟ قال "مطاوع" إن "المغربيّ جاء لهم بقتيل في الثّقافة"، لم يفهم "الشّهاوي" شيئًا، لقد تعوّد كثيرًا على تلك الهلاوس المضّطردة من زميل العمل، لكنه سارع بطلب الإسعاف، التي وصلت في دقائق لتأخذ "عليًّا" إلى الأبد.
إن أكثر جرائم الاغتيال بساطة وصمتًا هي اغتيال الشّاعر. لا رصاصة تحبس الأنفاس، لا انفجارَ يخلّف خسائر تعادل أهميّة الضحيّة، لا صياح: "أنقذوه"، والموت يأتي على أيّ صورة. هذه المرّة على هيئة شاحنة عسكريّة لا تحمل جنودًا، في شارع هادئ تمامًا، خالٍ من أيّ احتمالٍ للقتل.
في مستشفى كفر الشّيخ العام، بين أيدى طلّاب الامتياز المبتدئين في قسم الاستقبال، مات عليّ قنديل بعد دقائق قليلة من وصوله.
إن "عليّا"، هذا الرّقيق المخاتل، كان يحمل دائمًا قدره مثل حقيبة الدّرس، لذا غالبًا ما نراه مستسلمًا لتيار الحياة، يبحث عن أخوّةٍ ما مع الجميع، مع الكائنات والعناصر. ونراه شاردًا ولا نعرف من أين تأتي الكتابة. القصائد تقذف الجمر، والشّاعر أنيقٌ في هندامه الكامل، وحتى في موته، قصيدته الأخيرة الغامضة، كان حريصًا على وقاره المعتاد، ولم تعلق بقميصه ذرّة تراب واحدة. يقول "الشّهاوي": "لم يكن به أيّ شيء ينذر بالنّهاية، إطلاقًا، كان هادئًا كعادته، أتحدّث معه ويبادلني الحديث، وكنت أتصوّر أنه سيحصل على دواء ثم نمضي معًا إلى سبيلنا، لكنه سريعًا ما مات". لقد كان "عليّ" مثاليًّا في كلّ شيء، وحتى موته كان مقدّرًا له أن يكون بمثابة اعتذار.
من قصيدة "إشراقات شعرية" بخط "عليّ"
عندما سُئل "مطاوع" بعد ذلك عن تفاصيل الحادثة، قال إن "عليّا" لم يتعلّم المشيّ. "مطاوع" لا أحد يستطيع أن يسبر أغواره العميقة المعتمة، لقد كان "في عالمٍ وحده"، بحسب "الشّهاوي"، لا أحد يمكنه أن يستخرج من عقله سوى تلك الإشارات المبهمة، لعله أيضًا لم يكن مهتمًا بأن يفهمه الآخرون، كان يعيش عالمًا كاملاً من الحقائق السّوداء التي ربما ضنّ بها إشفاقًا على النّاس، أو ربما أخيرًا، وهو المستبعد، لإحساسه الغامض بالذّنب. لقد كان بإمكانه على الأقل أن يمنع القتل بأن يدفع عليًّا خطوة واحدة بعيدًا عن عمود الإنارة. كان ممكنًا أيضًا أن يكون هو القتيل، لو أنهما تبادلا المواقع. لماذا قال "مطاوع" لـ"الشّهاوي" إن "المغربيّ" جاء لهم بقتيل في القصر، هو الذي يعرف أن عامل الورديّة لم ير الحادث من الأساس؟
هذه العبارة لا يقولها سوى من يشعر بأنه متورّط في جريمة بطريقة أو بأخرى. لكن أحدًا لا يستطيع اتّهام "مطاوع" مهما كانت الحال، إن ضميره لا يسمح له بأن يقطع غصنًا في شجرة، كما أن أحدًا لا يستطيع إخفاء حقيقة الحادث التي شاهدها الكثير من المارّة في الشّارع، فما الذي دفعه إلى الكذب؟ أما السّؤال الذي لم يعد غريبًا الآن فهو: إذا كان الجميع استبعد فكرة الموت حينها، لأن عليًّا لم يبد أنه مصاب إصابة قاتلة، فلماذا استحضر "مطاوع" الموت لرفيقه منذ اللحظات الأولى؟
رأى "مطاوع"- أو "السّندباد الذي جاب العالم من موقعه" وهو عنوان إحدى دراسات "الشّهاوي" المفقودة- ما لم يره الآخرون ولو على سبيل الاحتمال. لقد كانت خدعة الموت مُحكمة. وعليّ/ طالب الطبّ كان يدّخر المناورة لوقت آخر. عندما يكون الخطر واضحًا على الأقل. وهكذا سقط عليّ/ الشّاعر في نبوءته:
لا تَسَلْ عن عليٍّ فقد دحرجته خيولُ المساء
إلى آخرِ القمحِ والفول
حين تساقطَ حقلُ السّماء
وأخفى الصِغارَ وهم يصنعون العَشاء
تمامًا:
يؤدّون دورَ المحبّين والأنبياء.
ربما لفرط غرائبيّتها عصفت ميتة عليّ قنديل بالجميع: رفاقًا وأساتذة، كانت بمثابة صدع في جدار الرّوح لن يلتئم أبدًا. فجأة توقفوا عن الكتابة، وزلزلت الصدمة كيانهم بالكامل، وحتى عفيفي مطر، الرفيق والأستاذ والشّاعر الكبير، لم تنجح معاول اللّغة الحادّة والصور البركانيّة وأصوات المجاعات القديمة المعتادة في تحريك مخيّلته. إن عليًّا لم يمت موتًا أسطوريًّا كالاحتراق مثلاً، ولا رومانتيكيًّا بسيانيد البوتاسيوم السّام، ولم يسقط تحت السّلاح، حيث لم يذهب مع رفاقه إلى الجبهة، وظل مرتهنًا بقاعات المحاضرات وموائد التشريح، لا يزال أمامه عامان من الدّراسة الشّاقة ويمنح الشّعر وجوده بالكامل. مات "عليّ" وهو في ريعان التخلّق والاحتدام، في الوقت الذي كان كلّ شيء مؤجّلاً: القراءة مؤجّلة للشّتاء المقبل، والحريّة مرهونة بشهادة التخرّج. ما زال أمامه عامان ليبدأ بعثه الكامل. أيّ عبثٍ تخبّئه الأقدار المعدنيّة ذات العجلات الضّخمة التي ترجع إلى الخلف؟
هل كان بإمكانه إنهاء المسائل بطريقة أسرع؟ إن خطواته أسرع من الجميع. لقد حرق مراحل عديدة في الطريق، ولم يبق سوى أن يصعد باتجاه أعلى درجات السّلم. وهو مناضل بطبيعته، يترك كلّ شيء وراءه من أجل برق الكتابة. وهو برغم تفوّقه لا يكترث لدراسة الطبّ، ولا المطحنة العائليّة التي تجري في بيته بالذّات. إن سمته الهادئ لم يكن سوى مناورة. و"عليّ" ليس صداميّا على الإطلاق. إنه لن يستهلك صوته وعبقريّته في الأطراف النائية، هكذا يقول. وهو ليس من النّوع الذي يحيد عن الهدف. وخلف الوداعة، كان بركانٌ هائلٌ في روحه يقبع إلى حين.
تلك كانت صورة "عليّ" حال موته المفاجئ: النّزوع إلى الاكتمال، بالفعل وبالقوّة، الانتفاض الذي لا يمكن إخماده بكوابح العادة والسياسة والعائلة، الخروج من الشرنقة بما يعني ولادة أخرى، بروح مصقولة أكثر، جديدة تمامًا، ومقتحمة.
لكنه لم يتعلّم المشيّ أولاً قبل أن يجرّب التحليق في الفضاء، وكان قدره أن يذوب تلقائيًّا في مكانه، ويختفي.
إن عبد المنعم مطاوع، المثقل بمأساته، والذي رافقَ عليًّا إلى الموت، كان يخطو هو أيضًا إلى النهاية، نهايته التي تأجّلت سبع سنوات أخرى.
مات "مطاوع" ميتة الرّفيق نفسها، أزمة قلبيّة استمرت دقائق قليلة مشابهة، في المستشفى نفسه، نفس غرفة الاستقبال، بين أيدي أطباء الامتياز المبتدئين.
في قصيدة تركها "رهن الكتابة"، يحكي عليّ قنديل عن فتىً أحبّ شيئًا ما، لعلها فتاة، لدرجة الامتزاج التّام: الحسيّ والشعوريّ، وكان وجود المحبوب يملأ كلّ الآماد في نفسه، بل يفيض عليها ويبتعد عنها وبها إلى مساحات الخيال. لكن المحبوب يغيب، ثم يأتي الجنون، ويا له من جنون مبرّر، رائع، وفي نفس الآن متسام عن الناس، غريب اغترابًا كاملاً. والناس لا تفهم. الناس تؤدّي إلى هلاكه في النهاية. فالتعارض مع الجماعة يؤدّي لهلاك الفرد وحده......... وهنا يترك عليّ قنديل مساحة فارغة في القصيدة لمشهد دخول الأم، وهو دخول رائع كما هو مقرّر. فجنون الابن هو نفسه جنونها. ولكن الناس لا تفهم. لقد أطفأوا بارقة كانت تحترق لتضيء ظلام الغباء الذي يلفّهم. وعلى أيٍّ، فقد عادوا بعده إلى ركودهم الجاف والتصاقهم العاجز بمواضع أقدامهم.
هل كان "عليّ" يكتب مآل الرّفيق الذي لازمه إلى الموت دون أن يموت؟ إن مساحة الأمّ التي صعدت من قاع الجنون إلى وطن القصيدة ستبقى خالية مع الأسف، والفتى سيحترق في نهاية الطّريق.
كان الرّفيق الميّت يبدأ، والآخر الحيّ ينتهي، لذا غرق الأوّل في ذروة الحلم، ولم ينتبه للآلة الضخمة التي دهمته، فيما كان الآخر يخطو بثقةٍ تجاه موته المؤجّل.
لقراءة الحلقة الرابعة اضغط هنا .