الوباء.. والطير الأبابيل

تفاصيل كثيرة حكتها كتب السيرة والتفسير عن حملة أبرهة الأشرم التى كان يتصدّرها فيل عظيم لتولى مهمة هدم البيت الحرام. ولست بحاجة إلى أن أحكى لك ما تعرفه من تفاصيل الواقعة، وكيف أن الله تعالى أرسل على أبرهة وجنوده طيراً أبابيل (جماعات)، فجعلهم كعصف مأكول (أى مثل التبن الذى أكلته الدواب).

وفى تحليل مُتأنٍ لما ذكرته كتب السيرة والتفسير حول هذه الواقعة، أشارت الباحثة «ناجية الوريمى» إلى أن الحجارة التى ضربت أبرهة وجنوده أصابتهم بوباء.

فالطير كانت تحمل بين أرجلها وبمناقيرها نباتات أو أحجاراً صغيرة للغاية، بمجرد أن تضرب من له نصيب فيها يتساقط بالطريق ويهلك كل مهلك، وأصيب أبرهة فى جسده، وخرجوا به معهم وأنامله تتساقط أنملة أنملة.

وتشير «الوريمى» إلى أن بعض المفسرين أشاروا إلى أن عرب مكة عرفوا وباء الجدرى لأول مرة مع هذه الواقعة، وأنه أول ما رُئيت الحصبة والجدرى بأرض العرب كان فى ذلك العام. ويبدو أن هاجس الوباء والخوف من الإصابة به قد سيطرا على ساكنى مكة والمناطق المحيطة بها، كما جاء فى المحادثة التى دارت بين حليمة السعدية مرضعة النبى وأمه آمنة. قالت آمنة: دعينا نرجع ببنينا هذه السنة لأخرى فإنا نخشى عليه أوباء مكة.

لكن خلافاً لما تذهب إليه «الوريمى» لم تكن مكة هى البقعة الوحيدة التى شهدت أوبئة بعد عام الفيل. فالواضح أن يثرب هى الأخرى كانت تعانى على هذا المستوى، بل ربما فاقت معاناتها مكة.

فقد ذكر «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» أن بلالاً بن رباح كان يدعو على كبار عرب مكة، قائلاً: «اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء». ويقصد بأرض الوباء «يثرب»، التى هاجر المسلمون إليها فراراً من اضطهاد المشركين لهم، وينقل عن عائشة أيضاً قولها «دخلنا المدينة وهى أوبأ أرض الله».

وكان النبى، صلى الله عليه وسلم، يدعو ربه بعد الهجرة إلى «يثرب»، قائلاً: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا فى صاعها وفى مدها وصححها لنا».

كان هناك وباء عند ذاك اسمه «حمى المدينة» يؤدى إلى ارتفاع درجة حرارة المصاب به ويؤدى إلى أوجاع جسمية قد تُعجزه عن الوقوف. وقد كانت الحمى تصل بالمصاب إلى حد الدخول فى غيبوبة يظن معها من يتابعه أنه توفى. وقد حدثت واقعة دالة على ذلك زمن الحمى التى كانت تضرب يثرب أيام النبى، صلى الله عليه وسلم، كان بطلها شاب هاجر حديثاً مع أمه إلى المدينة. يروى «ابن كثير» عن أنس بن مالك قال: «عدنا شاباً من الأنصار، فما كان بأسرع من أن مات، فأغمضناه ومددنا عليه الثوب، وقال بعضنا لأمه احتسبيه، قالت: وقد مات؟ قلنا: نعم! فمدت يديها إلى السماء، وقالت: اللهم إنى آمنت بك وهاجرت إلى رسولك، فإذا نزلت بى شدة دعوتك ففرجتها، فأسألك اللهم لا تحمل علىّ هذه المصيبة، قال: فكشف الثوب عن وجهه، فما برحنا حتى أكلنا وأكل معنا».

وواقع الحال أن من كانوا يحيطون بالشاب لم تكن لديهم القدرة على التفرقة بين الغيبوبة والوفاة. والمسألة أن الشاب لم يعد من الموت إلى الحياة، لكن الله قدّر له أن يصح ويفيق من غيبوبته رحمة بأمه. والواضح أن مسألة وباء الحمى كانت جزءاً لا يتجزّأ من حياة المدينة، وكانت عدواه تنتقل بسهولة من شخص إلى آخر.

وربما كانت مكة ذاتها هى مصدر أوبئة المدينة بعد أن انتقلت عدواها عبر الرحلات المتبادلة بين أهل القريتين، والتى أعقبت واقعة «الفيل» و«الطير الأبابيل».