خرابة الراوى

فى قاموس اللغة العربية يوصف الشخص الذى يتكلم بالفم المليان بـ«المتفيهق».. من خصائص الكائن المتفيهق أنه يرفض الاستماع إلى أى رأى مخالف لما يقول، تجد «المتفيهق» من هؤلاء يحشو فمه بالكلام وما إن تسمع أذنه أى رأى أو نقد يوجه له حتى تنطلق رشاشاته الكلامية بصورة عشوائية لتصيب يميناً ويساراً دون أى حساب. ويعكس الدفاع المعتمد على رشاشات الكلام نوعاً من الكبر لدى صاحبه، ويعبر عن شدة إعجابه بذاته وبأسلوب تفكيره والتعالى على ما ومن يخالفه.

وكلمة «المتفيهقون» وردت فى الحديث النبوى الشريف الذى يقول: «وإن من أبغضكم إلىَّ وأبعدكم منِّى يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون.. قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون.. فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون. تستطيع أن تجد نماذج لهذا الصنف من البشر فى العديد من جوانب حياتنا العادية.

تسمع حديث «المتفيهق» من هؤلاء فتجد عجباً. تعلق على أحد قراراته أو تستوقفه بوجهة نظر حول أدائه فتجد لسانه يتمدد إلى خارج فمه، وينبرى مدافعاً عن قراراته أو إجراءاته أو سياساته «الميكس» التى تحمل كل شىء والعكس وتحول المجتمع إلى معمل تجارب، وتشهد على أنه لا يدرس خطواته ويحسبها بدقة.

يرهبك «المتفيهق» بالعفاريت اللفظية عن «التطوير» و«التحديث» و«الأخذ بروح وأدوات العصر» و«النقلات النوعية» وتطبيق «أحدث ما وصل إليه العلم فى العالم»، وغير ذلك من ألفاظ فخمة ضخمة ينطق بها لسان «المتفيهق» ويتخفى وراءها دون وعى باختلاف الظروف والسياقات، ودون إدراك حقيقة أن كل مجتمع له ما يناسبه، وأن طريقة معينة فى إدارة التعليم -مثلاً- قد تنجح فى مجتمع وتفشل فى آخر، لأن التطوير لا يتم فى فراغ.

يرفع المتفيهق شعار «أنا الوحيد الذى أفهم»، وبناء عليه يجلس فى مكتبه الوثير ثم يبدأ فى التخطيط للعالم وللبشر من حوله، ثم يخرج عليهم برسالته فى «إصلاح العالم»، والويل ثم الويل لمن يستوقفه قائلاً لقد رسمت خططك للعالم المحيط بك بعيداً عن ظروف الناس وإمكانيات الواقع والأدوات المتاحة فيه، فينظر لك شذراً ويتهمك مباشرة بأنك لا تفهم الحكمة العالية والمغزى الكبير وراء كل سطر من سطور خطته.

يفرض «المتفيهق» خططه على الواقع، وعندما لا تحقق المرجو بسبب عدم صلاحيتها له ويضطر إلى العودة إلى «قديمه»، فإنه يصرخ فى الجميع قائلاً «العيب ليس فى النظرية بل فى التطبيق».

إنه الكبر الذى يحولُ بين الفرد والاعتراف بأخطائه ومحاولة تصحيحها، الكبر الذى يصد صاحبه عن الاستماع إلى الناس واستطلاع آرائهم ووجهات نظرهم والاستنارة بها عند صناعة القرار.

فى رواية «قلب الليل» للمبدع نجيب محفوظ يظهر بطلها «جعفر الراوى» الذى عاش حياة بوهيمية تمرد فيها على كل من حاولوا وضعه على طريق، وينتهى به الأمر -بعد رحلة تخبط طويلة- إلى الاعتزال فى مكتبه الوثير لفترة طويلة من الزمن، ليخرج على العالم بعدها وهو يحمل مجموعة من الأوراق يزعم أن فيها «نظرية جامعة شاملة لإصلاح العالم» ولم تكن أكثر من «سمك لبن تمر هندى» وعندما ينتقد أحدهم نظريته يرد عليه بسفك دمه وقتله، ليحكم عليه بالسجن، ويخرج بعدها ليقضى أيامه الأخيرة فى «خرابة الراوى».