تركيا في أفغانستان.. ماذا تريد وإلى أين ستذهب؟!
يبدو أن النظام التركى وهو يمر بأوقات عصيبة، بالأخص فى علاقته بالولايات المتحدة، قرر أن يخطو على طريق جديد بغية إثبات نفسه كحليف وثيق، يمكن الاعتماد عليه فى المهام التى تمثل خطورة من نوع ما، فى حال اضطرت واشنطن للانخراط فيها، أو على الأقل لا تريد تركها للاعبين آخرين يمكنهم أن يحققوا منها مكاسب، قد لا يرضيها إفلاتها. الطريق الجديد الذى قررت أنقرة المضى قدماً عليه، هو أفغانستان التى تستعد الولايات المتحدة لمغادرتها بحلول الحادى عشر من سبتمبر المقبل، بعد أن أمضت نحو 20 عاماً على تلك الأراضى الملتهبة بالمخاطر والأحداث.
فتحت تركيا جولة من المباحثات مع الجانب الأمريكى، بشأن رغبتها فى تشغيل «مطار حامد كرزاى» الواقع فى العاصمة الأفغانية كابول، فى إطار خطة تعمل عليها أنقرة منذ مطلع شهر يونيو الماضى. فالأخيرة لديها قرابة (600 جندى) متواجدون فى أفغانستان منذ نحو 6 سنوات، كجزء من قوة حلف شمال الأطلسى «الناتو» التى تنسحب بدورها أيضاً قبيل نهاية العام رفقة القوات الأمريكية. الجانب التركى يعرض حماية مطار كابول الذى يحظى بأهمية كبيرة، باعتباره ممراً للبعثات الدبلوماسية وبوابة لدخول ووصول المساعدات الإغاثية والإنسانية. لكن عاصفة من الرفض اندلعت من جهات عدة، مما يحول دون تحقيق أردوغان رغبته فى إتمام تلك الصفقة حتى الآن، فالصيغ التى طرحها تبدو غير ملائمة للجانب الأمريكى الذى فضل أن يستمع ويتباحث قبل أن يعلن رفضه النهائى، فى حال رأى أن هذا هو الاتجاه الأسلم. يمثل الداخل التركى أشرس المعارضين لهذا المقترح، ويرى أن رجب أردوغان يقفز إلى المجهول فى سبيل إصلاح علاقته بالإدارة الأمريكية الجديدة، فهذه المهمة لن تقف عند حد حماية المطار الدولى بالعاصمة كما يدعى النظام التركى، بل ستشهد الكواليس الأفغانية ما هو أكبر وأكثر اتساعاً مما هو متداول فى العلن.
ما يريده أردوغان هو إبداء استعداده لخدمة المصالح الأمريكية مقابل ضمان بقائه فى السلطة، دون النظر إلى أن «كابول» العاصمة التى يريد حماية مطارها الدولى، مهددة بالسقوط فى يد «طالبان» بمجرد إتمام الانسحاب الأمريكى. فالحركة التى أعلنت صراحة رفضها للمقترح التركى وترفض أى تواجد «رديف» للقوات التركية فى أفغانستان، بدأت تتقدم فى استحواذ لافت على الأراضى والمقاطعات ذات الكثافة السكانية العالية، والتى تفتح لها المجال لاكتساب مزيد من القدرة والقبض على مفاصل القرار الأفغانى. فخلال الأشهر القليلة الماضية؛ تمكنت الحركة من السيطرة على (12 مقاطعة) من (7 أقاليم) مختلفة، ليصبح الماثل أمام جميع المراقبين ومنهم الجانب الأمريكى الذى لم يتمم مغادرته بعد، أن «طالبان» باتت تسيطر على ما يزيد على (60 مقاطعة) فى مختلف أنحاء البلاد. وهو بترجمة جغرافية ومساحية، يضع ثلثى مساحة أفغانستان تحت قبضة «طالبان»، التى بدأت فعلياً فى إزاحة جميع مظاهر تواجد دولة المركز فى كابول، خارج نطاق تلك المناطق فى مشهد يعيد للذاكرة حقبة التسعينات من القرن الماضى.
تركيا فيما تطمح إليه، تدرك أنها تخطو بأقدامها وسط أطراف لا تقل شراسة وقدرة على الانطلاق فى مشروعاتها الخاصة، التى تنتظر هى الأخرى الانسحاب الأمريكى على أحر من الجمر، وتتجهز له منذ سنوات بل وشاركت فى صناعة كواليس أن يصير هو الخيار المنطقى للقوات التى أمضت 20 عاماً، لتعود بالمشهد الأفغانى الراهن لنقطة الصفر. هذه القوى التى ترى أفغانستان وقد باتت ساحة للصراع الإقليمى الأهم من الصراع الداخلى، هى روسيا وإيران وباكستان، جميعهم لديهم ميزة الشراكة الجغرافية التى يتفوقون بها على الجانب التركى، مما يجعلهم قادرين على صياغة قدر من تقاسم النفوذ دون إرباك لمصالحهم البينية. فروسيا التى ترى من وجهة نظرها أنها نجحت فى هندسة «مستنقع» مثالى للقوات الأمريكية وإمكانيات الأطلسى، مكَّنها من رد صفعة إخراج الاتحاد السوفيتى من ذات الأرض فى ثمانينات القرن الماضى، لديها اليوم علاقات وثيقة بالقوميات الأفغانية الشمالية بالخصوص، قادرة على حماية حصة نفوذ تقليدية فى هذا النطاق الجغرافى الشاسع.
أما إيران التى أتقنت لسنوات العمل المزدوج مع الولايات المتحدة، فى إسقاط كل من أفغانستان وبعدها العراق فى 2001 و2003، بأدوار استخباراتية وعملياتية على الأرض قبل أن تتقاطع المصالح لاحقاً، تعود منذ سنوات على كلتا الساحتين لتجعل الوجود الأمريكى أكثر كلفة، بذات الأدوات التى استخدمتها سابقاً لصالحها. واليوم وفق قراءتها لمشهد التنافس الاستراتيجى الحاد الذى يدور من حولها، ترتب بهدوء مع الصين لاسيما أنها يمكن أن تمثل لها رافعة الدخول الآمن مرة أخرى إلى داخل أفغانستان بعد الخروج الأمريكى. فبكين تتلهف إلى استكمال «طريق الحرير» الآسيوى الاقتصادى، الذى تمثل فيه الأراضى الأفغانية فرصة يصعب على الصين تجاهلها، لهذا يمكن تصور أن تكون قد بدأت فعلياً التعاون مع إيران من أجل النفاذ إليها. وتبقى باكستان صاحبة العلاقات التاريخية والنفاذ الاستخباراتى العميق، داخل المكونات القبلية والكيانات المسلحة المحلية فى أفغانستان، رقماً يصعب على أى من الأطراف الأخرى تجاوز مساحات نفوذها الراسخ، يكفيها حجم التداخل بين قوى الإسلام السياسى ما بين البلدين وصولاً لحركة «طالبان» ذاتها، التى لم ينس أحد أنها نشأت وانطلقت من الأراضى الباكستانية وتحت أعين ورعاية أجهزة استخباراتها.
لذلك يبدو المخطط التركى مشوشاً هذه المرة؛ حتى وإن حظى بمباركة أمريكية من أجل لعب دور المشاغب لتلك المشروعات السالفة، مثلما قام النظام التركى بهذه المهام فى عديد من الملفات الأخرى، أشهرها النموذج الليبى الذى بالمناسبة هناك إشارات تذهب إلى أن المشروع برمته، هو من أجل ضمان وجود ملاذ آمن للمرتزقة الموجودين فى ليبيا. حيث بدأت الضغوض لإخراجهم تأخذ منحى أكثر جدية، مما يدفع أنقرة إلى البحث عن مستنقع جديد من أجل استثمارهم فيه، لصالحها ولصالح من يمكنها أن تقبض منه أثماناً مقابل هذه المهام المركبة غير الاعتيادية.