الموظف «الميري»
المصرى ابن الوظيفة الميرى.. وقد عكست الأفلام خلال فترتى الثلاثينات والأربعينات -مثل فيلم «العزيمة» وفيلم «القاهرة 30»- ولع المصريين بالوظيفة.
عبر تاريخه عاش الموظف المصرى يؤثِر السلامة ويفضل الابتعاد عن السياسة، فقد علمته تجربته التى بدأت مع الوالى الكبير محمد على أن الهدوء واستقرار الأوضاع خير وأبقى له من الاضطرابات والاحتجاجات التى تقلق حياته الآمنة بالدخل الثابت والمطمئنة بقبض المرتب أول كل شهر.
لم يشارك الموظفون فى ثورة عرابى على سبيل المثال، لكنهم خرجوا على هذا النهج فى ثورة 1919، حين أضربوا عن العمل لمدة 3 أيام، مشاركة منهم فى الفعاليات التى شهدها الشارع المصرى حينذاك، لكن المضحك فى الأمر أن الأيام أثبتت أن المشاركة فى الثورة كان أساسها حاجة فى نفس «المواطن الموظف»، فلما قضاها اختلف موقفه، وكان سحب الموظفين من الشارع أول خطوة فى تفكيك «الكتلة الشعبية» التى تلاحمت ضد سلطة الاحتلال. كان ذلك حين قررت الحكومة حينذاك منح الموظفين علاوات وترقيات استثنائية.
مع تبنى «السادات» لسياسات الانفتاح الاقتصادى فى السبعينات عانى الموظف المصرى -مثل غيره من أبناء الشعب- من أزمة اقتصادية طاحنة بسبب الغلاء وضمور المرتبات وعدم نموها بشكل يتناسب مع ارتفاع معدلات التضخم.
جسّد فيلم «الموظفون فى الأرض» (1985) للمخرج أحمد يحيى المأساة التى بدأ الموظف المصرى يقع فى براثنها جراء الغلاء وإحساسه بالعجز عن الوفاء باحتياجاته واحتياجات أسرته من خلال شخصية «كامل عبدالشكور» الموظف النزيه بإحدى مؤسسات وزارة الصناعة والذى يعانى من غبن وظيفى أدى إلى تخطيه فى ترقية كان يستحقها، ومنحها لآخر فاسد الذمة، لكنه لم يكترث بالأمر لأن هناك ما كان يشغله بدرجة أكبر.
ناء ظهر «كامل» بتكلفة تربية ابنه الذى يستنزف جزءاً كبيراً من مرتب الأب فى الدروس الخصوصية، وابنته التى ما زالت تدرس فى الجامعة، وابنته الكبرى التى تخرجت ووجدت شريك حياتها، ويعجز الأب عن تجهيزها.
لا يجد الموظف الشريف النزيه الذى يرفض التربح من وظيفته من طريق أمامه سوى أن يتسول، ويبدأ الرحلة ويجمع مالاً وفيراً يستطيع أن يسد من خلاله احتياجات أولاده، حتى يكتشف أحد زملائه بالمؤسسة التى يعمل بها أمره، ويشى به.
يقدم «كامل عبدالشكور» للمحاكمة بتهمة الإساءة إلى سمعته الوظيفية فيقف أمام القاضى مدافعاً عن نفسه، ويصرخ بأنه لم يكن أمامه سوى الاختيار بين الفساد الوظيفى أو التسول، فاختار التسول على أن يبيع ذمته وضميره وشرفه الوظيفى.
الفيلم مثَّل صرخة تحذير مبكرة من تردى أوضاع الموظفين المصريين فى السبعينات والذى تواصل خلال العقود التالية، وأكد على التحول الذى وقع فى حياة هذه الشريحة من المصريين، بعد أن كان الدخول إلى عالم الوظيفة الميرى يشبه دخول الجنة، وحين كان الموظف هو الأكثر شعوراً بالأمان بين فئات المجتمع المختلفة بسبب الدخل الثابت.
عالج الفيلم الماء الكثير الذى جرى فى حياة الموظفين فأحالها إلى محنة كبرى تحولوا معها إلى متسولين.