احتفال موكب المومياوات وموسيقاه الفخمة
اسمحوا لي باعتباري مهندسا أدير مشروع المتحف المصري الكبير، ودارسا للتأليف الموسيقي لأكثر من 35 عاما، أن أعبر عن رأيي في هذه الاحتفالية المبهرة التي جعلت كل مصري في كل أنحاء العالم أن يرفع رأسه عاليا فوق سحاب كل الدول، معلنا عودة مصر القوية الشامخة بالأحفاد العتاه الجبابرة بقيادة فخامة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي وبتنظيمات معالي السيد الوزير خالد العناني، الذي ألهب قلوب الكل بحب مصر بتنظيمه لهذه الاحتفالية الضخمة، التي ألقت على عاتقه أيضا عبء الإجابة على السؤال: «إذا كانت احتفالية نقل 22 مومياء لمتحف صغير بهذه العظمة، فكيف ستكون احتفالية افتتاح أكبر متحف قي العالم يضم 5600 قطعة أثرية من مقتنيات توت عنخ أمون، إلى جوار أكثر من عشرين ألف قطعة أثرية أخرى؟ لكني أثق في هذه الشخصية العبقرية أنها ستأتي بأفكار جديدة أكثر إبهارا، خاصة أنه يعاونه السيد اللواء مهندس عاطف مفتاح المشرف العام على المتحف والمنطقة المحيطة به، مع لفيف من مجموعة من أساتذة مركز الترميم.
أما بخصوص موسيقى الاحتفالية التي أثارت الكثير من المناقشات، ملأت مواقع التواصل الاجتماعي، فأريد أن أوضح الآتي:
- أن هذه الموسيقى كانت من الفخامة والعظمة والإتقان والإبهار بما يتناسب والحدث الجلل، فتحية إعجاب وتقدير للمؤلف القدير هشام نزيه.
- وأن المايسترو نادر عباسي قاد الأوركسترا والكورال باقتدار، وقد كان كل فنان أمامه على قدر المسؤولية. وفي اعتقادي أن ما حدث هو أفضل كثيرا من الذي اعتدناه، أن تقدم أوبرا عايدة للمؤلف الإيطالي فيردي.
لكن مؤلف هذه الاحتفالية هو فنان مصري أصيل، وإن كان قد قدم موسيقى مصرية قد تأثرت كثيرا بموسيقات غير مصرية. كم كنت أتمنى أن أسمع جملا موسيقية من التربة المصرية، من تيمات سيد درويش ومن نغمات السنباطي والقصبجي والحامولي، ومن موسيقانا القبطية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ بنحو ألفي سنة.
- أما بخصوص هل الموسيقى القبطية تحمل هوية موسيقى الفراعنة والقدماء المصريين أم لا فإليكم ما يؤكد أن جذورها فرعونية:
• أولا لنرجع بالتاريخ إلى عهد دخول المسيحية إلى مصر على يد القديس مرقس الرسول. لقد كانت المعابد الفرعونية تتصاعد بين أعمدتها الموسيقى المصرية القديمة، ومن بين هؤلاء الذين ينشدون، دخل الكثير منهم إلى الإيمان المسيحي. فهل هؤلاء استطاعوا أن يتخلصوا من الموسيقى المصرية القديمة التي اختزنت في عقلهم الباطن وشكلت وجدانهم؟ بالطبع لا. بل قاموا بتأليف الأغاني لتسبيح الرب على نفس النسق.
وبالرغم من أن هذا هو المنطق، لأن العالم الفرابي أكد «أن الموسيقي لا تُستحدث من العدم»، إلا أن كلامي هذا يدعمه المؤرخ فيلو السكندري الذي عاش أيام الرسل في القرن الأول الميلادي فقد كتب: «وهكذا لا يقضون وقتهم في تأملات فحسب بل أيضا يؤلفون الأغاني والترانيم لله بكل أنواع الأوزان ولألحان ويقسمونها بطبيعة الحال إلى مقاييس مختلفة».
ولست أشك للحظة أن يكون من بين الذين قبلوا الإيمان المسيحي مؤلفين وملحنين درسوا العلوم الموسيقية في المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية فصاروا يؤلفون ويلحنون للرب «ترنيمة جديدة» تحمل سمات ماتربى وما اختزن في قريحتهم الموسيقية من تيمات موسيقية كانوا يرددونها في المعابد الفرعونية.
كذلك كتب هذا المؤرخ فيلو «22 ق. م – 54 م» قائلا: «إن جماعة المسيحيين الأولين قد أخذوا ألحانا من مصر القديمة ووضعوا لها النصوص المسيحية وأن من بين هذه الألحان لحن غولغوثا الذي كان يرتله الفراعنة أثناء عملية التحنيط وفي مناسبة الجنازات».
والحقيقة لن أقتنع برأي أي شخص في القرن الواحد والعشرين سوف يُكذب ما كتبه فيلو في القرن الأول الميلادي.
• ولكن يبقى التساؤل: وماذا يؤكد لنا أن هذه الموسيقى لم تتغير عبر 2000 عام؟ والإجابة: من قال أنها تجمدت؟ ومن يجرؤ أن يقول إن الحجارة تأثرت وتغيرت والموسيقي لم تتأثر؟ فهناك تماثيل فُقدت أجزاء منها، وهناك أبو الهول قد أطاحت عوامل التعرية بأنفه، فكيف لا تتأثر النغمات؟ مما لا شك فيه تأثرت، وهذا التأثر هو الذي يزيدها جمالا وعظمة. فلو أعادوا لأبو الهول أنفه وضمدوا جراحات حجارة جسده، لفقد قيمته الحضارية. لكن هل أحد يستطيع أن يقول أن هذا ليس أبو الهول لِما حدث له من تغيرات؟ لا إنه أبو الهول حقا لا غش فيه.
هكذا الألحان القبطية، هي الألحان القبطية بجذورها الفرعونية بالرغم مما حدث لها من تغيرات طبيعية على مدي الأزمان، هذه التغيرات أثقلتها وأضافت جمالا فوق جمالها. ولهذا عندما قدمتها فرقة دافيد في 67 دوله حول العالم، كان الانبهار، والتصفيق الذي كان يصل لبضع دقائق مع الوقوف، تعبيرا عن الاحترام المتناهي لهذه القيمة الموسيقية والروحية والحضارية.
• ويبقى سؤالا آخر: كيف حافظت الكنيسة على هذه الألحان 2000 عام؟ إنه التقليد الشفاهي بالتواتر بين الأجيال، إنه ال Oral Tradition. لقد عينت الكنيسة منذ يومها الأول المرتلين المكفوفي البصر ذو الموهبة الصوتية، والذاكرة القوية التي تحفظ الألحان، وتسلمها جيلا بعد جيل للشمامسة إلى يومنا هذا.
يؤكد كلامي ما كتبه القديس كليمندس الإسكندري واصفا خورس المسبحين وقائده والمعلم في كنيسة القرن الثاني الميلادي بمصر قائلاً: «حينما يتحد الكثيرون ويصيرون واحدا حيث أصنافهم وأصواتهم المتعددة، يخرج منها بالانسجام الإلهي سيمفونية واحدة يقودها قائد الخورس والمعلم.
كما يؤكده أيضا ماكتبه القديس يوحنا ذهبي الفم (377 – 407م) بطريرك القسطنطينية واصفاً الحياة الكنسية بمصر وحياة التسبيح والسهر الذي أستلموه من مصر قائلاً: «إذهبوا إلى الكنيسة في مصر وأنظروا إلى الفقراء وهم ساهرون من منتصف الليل حتى الفجر، اذهبوا وانظروا السهاري كيف يضمون الليل إلى النهار، أنظروا كيف لا ينامون الليل، لا يهابون النوم ولا العوز... يتشبهون بيقظة الملائكة حينما يقدمون الأبصلمودية والألحان بلا توقف إلى الخالق، يا للمواهب العجيبة. فالملائكة فوق يسبحون لمجد الله، وهؤلاء على الأرض يداومون السهر مع الخورس يسبحون بنفس التمجيد على طقس الملائكة.
الشاروبيم فوق يصرخون قدوس قدوس قدوس، ومجمع البشر في الكنيسة على الأرض يقدمون نفس التسبحة. وهكذا تكمل شركة الاجتماع العام بين سكان السماء وسكان الأرض معاً.
شكرهم واحد وتمجيدهم واحد وخورس الفرح الساهر واحد على الدوام، إنه الخورس والمعلم وتسليم الألحان الذي بدأ في القرن الأول الميلادي وتسلمه القديس كليمندس السكندري حيث كتب قائلاً: «إن هذا التقليد ُسلم أولا لبطرس ويوحنا ويعقوب، ثم لبولس بصفة خاصة، وقد سُلم إلينا من أب إلى ابن حتى وصل إلينا، وها نحن نسجله بالكتابة بعد أن كان محفوظاً بالكلمة».
أرجو أن تكون كلماتي قد أوضحت الأمر الذي أثار بعض البلبلة، وكم أتمنى أن أجد في موسيقى افتتاح المتحف المصري الكبير، نغمات نابعة من الموسيقى المصرية القديمة وأن تكون بها تيمات من ألحان مثل غولغوثا وبيكثرونوس التي أكد مؤرخو القرون الأولى الميلادية أنهم سُمِعوها في المعابد الفرعونية.
مهندس جورج كيرلس
مدير مشروع المتحف المصري الكبير من الشركة المنفذة أوراسكوم، ومؤسس وقائد فرقة دافـيـد للألحان القبطية، وخبير الموسيقى القبطية بجامعة حلوان.