سد النهضة والقوة التي تخلق الحق وتحميه

كثيراً ما يشير الباحثون فى فلسفة القانون إلى أن القوة تخلق الحق وتحميه، وذلك جرياً على ما كان يقول به فقهاء القانون الرومانى الأقدمون، وإدراكاً لحقيقة أن القانون هو عمل بشرى يتأثر -بداهة- بتوازنات القوى والمصالح داخل المجتمع الذى يسعى إلى تنظيمه.

وإذا كان هذا هو الحال فى القانون الداخلى، فإنه يكون أكثر منطقية فى القانون الدولى الذى ينظم العلاقات بين الفاعلين الدوليين، وعلى رأسهم الدول، والذين تتباين فيما بينهم موازين القوى وتختل بشكل كبير، فتأتى قواعده تعبيراً عن هذا التباين وعن هذه الاختلالات. ولعل مثالاً واحداً -فى هذا المقام- كفيل بتأكيد هذه المعانى، وأعنى به الوضعية المتميزة للدول الخمس الكبرى فى مجلس الأمن من ناحية عضويتها الدائمة وامتلاكها حق النقض «الفيتو»، خروجاً على مقتضى مبدأ المساواة فى السيادة الذى قررته المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة.

وإذا كنا نعيش فى مجتمع دولى يرتب لصاحب القوة حقوقاً، بشكل صريح أو ضمنى، أو حتى بالصمت المطبق والفشل الذريع فى مواجهته، وما حالة إسرائيل منا ببعيد، فإن القوة، واستخدامها قمعاً أو ردعاً، تبقى أمراً لا غنى عنه لمن يريد أن يحمى حقه المقرر بالقانون.

ومعلوم أن مصر فى سياستها الخارجية لم تستخدم القوة يوماً للعدوان على غيرها من الدول، ولا فى خلق حق مزعوم لها ليس له سند من القانون، كما لم تستخدمها يوماً فى تهديد أحد. وهو ما عبّر عنه السيد رئيس الجمهورية فى مناسبات عدة من أن بلادنا تمارس السياسة بأخلاق فى زمن تعز فيه الأخلاق. غير أن هذا لا يعنى بحال أن تمتنع عن استخدامها دفاعاً عن حقوقها المشروعة، متى ما فشلت الوسائل الأخرى فى الدفاع عنها، فما وُجدت القوة إلا لتحمى الحق.

وبدهى أن الحظر الذى أوردته الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على استخدام القوة أو التهديد بها فى العلاقات الدولية، لم يحُل دون الدولة وحقها فى استخدام هذه القوة فى حالة الدفاع الشرعى عن النفس، وهو ما قررته المادة الحادية والخمسون من الميثاق، والتى نصت على أنه «ليس فى هذا الميثاق ما يُضعف أو ينتقص الحق الطبيعى للدول، فرادى أو جماعات، فى الدفاع عن أنفسهم».. وإذا كان صحيحاً أن استخدام القوة فى هذه الحالة مشروط بالعدوان المسلح، حيث أضافت هذه المادة «إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة»، فما الذى يبقى فى يد الدولة التى تتهدد مصالحها الحيوية، وحقوقها المشروعة، وحياة شعبها، نتيجة لخطر شديد محدق بها، لا يتخذ صورة العدوان المسلح فى شكله التقليدى، ولكنه أشد خطراً وأبعد أثراً من أى عدوان مسلح؟ هل يطلب منها القانون الدولى أن تنتظر إلى حين حدوث الكارثة؟ وحينها لا ينفع الندم.

لست فى حاجة فى هذا المقام إلى التفصيل فى الإشارة إلى ما فعلته بعض الدول، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية، وأيّدها فيه جانب معتبر من الفقه الدولى، من استخدام القوة المسلحة ردعاً لعدوان محتمل، تحت مسمى «الدفاع الشرعى الوقائى أو الاستباقى». كما أننى لست فى حاجة إلى التفصيل فى سرد الحجج والأسانيد التى أفاض فيها الفقه الدولى فى رده على القائلين بأن الدفاع الشرعى مشروط بالعدوان المسلح التقليدى فقط، ويكفى هنا الإشارة إلى قولهم إن واضعى ميثاق الأمم المتحدة لم يتصوروا إمكانية تهديد السلم والأمن الدوليين إلا عبر العدوان المسلح، وإنهم لو تصوروا هذه الإمكانية عبر أنماط تهديد السلم والأمن الدوليين الجديدة، كالإرهاب الدولى مثلاً، لأباحوا استخدام القوة ضدها دون حاجة لانتظار حدوث عدوان مسلح تقليدى.

وإذا كان هذا صحيحاً فى شأن الإرهاب الدولى، والذى قد يترتب عليه ضحايا بالعشرات أو حتى المئات.. فما بالنا بإقامة سد على نهر دولى، يحول دون انسياب المياه فى طريقها الطبيعى نحو دولة المصب وعبر دولة الممر، فى إنكار فج لحقوقهما التاريخية المكتسبة وللمعاهدات القائمة ذات الصلة، ويهدد ليس فقط حياة الملايين فى كل من الدولتين الأخيرتين، بل يهدد بقاءهما ذاته. وما بالنا إذا كانت الدولتان الأخيرتان قد أظهرتا من حسن النية عبر سنوات طويلة ما يدحض كل حجة للطرف المتعسف. هل تنتظر الدولتان المضرورتان وقوع الواقعة؟ وهل يبيح القانون الدولى، أو أى قانون آخر يصدق عليه وصف القانون، هذا؟

لقد وضع السيد رئيس الجمهورية فى كلمته يوم الثلاثاء الماضى الأمور فى نصابها حين قرر أن أحداً لا يستطيع أن يأخذ قطرة ماء من مياه مصر، ومن يريد أن يحاول فليحاول، وستكون هناك حالة من عدم الاستقرار فى المنطقة بكاملها ولا أحد بعيد عن قوتنا.

لا فُض فوك «القوة لا تخلق الحق فى شريعتنا ولكنها تحميه دون أدنى شك».

* أستاذ القانون الدولى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وعضو مجلس الشيوخ