«الوطن» تفتح ملف «التراث القبطى».. مستودعات الحضارة وخزائن التاريخ (الحلقة الأولى)

«الوطن» تفتح ملف «التراث القبطى».. مستودعات الحضارة وخزائن التاريخ (الحلقة الأولى)
بين رقوق من الجلد طويت ودفنت فى الجبال، ولغة كادت تندثر لولا تداولها داخل بيوت الله، وألحان وموسيقى حرسها فاقدو البصر حفظاً لا كتابة، ما كان للعالم أن يحصل على مفاتيح الحضارة والتاريخ التى أعادت تشكيل الإرث الإنسانى وكتابته من جديد بعد قرون مما استقر فى أذهان الناس.
هنا فى مصر كنوز لا تنضب، وتاريخ ما زال لم يُكتب بعد، تحتاج إلى من يفتش ويبحث ويدرس ليُدون فى كتبه عن «الدين، والفن، والفلسفة، والأدب، والعمارة»، فحضارة المصريين لم تتوقف عند القدماء، بل استمرت فى الحقب المتعدّدة التى مرّت بها، ومنها القبطية والإسلامية التى يقول عنها الكاتب الكبير «ميلاد حنا» إنها أعمدة الشخصية المصرية.
وإذا كان الفراعنة بهروا العالم بحضارتهم، فإن التراث القبطى هو الذى امتلك مفاتيح فك الطلاسم الصماء على جدران المعابد والمقابر، وهو ذاته التراث الذى أعاد كتابة التاريخ المسيحى من جديد فى القرن العشرين، وهضم داخله ثقافات وحضارات متعدّدة فأنتج «فناً وفلسفة وأدباً» وقبله إرثاً إنسانياً يكفى تعليم العالم كله، إلا أنه لم يحظَ بفرصة جيدة حتى اليوم لاكتشافه، وما ظهر للعالم منه لم يكن إلا بمحض صدفة.
لأول مرة، نطرق أبواباً لم تُطرق فى رحلة إعادة اكتشاف «التراث القبطى»، عبر رحلة نبدأها بمستودعات الحضارة وخزائن التاريخ.
«يوحنا شفتشى» الجندى المجهول فى فك لغز «الهيروغليفية»
انبسطت الصحراء أمامنا، حينما كانت تطأ السيارة الأرض طياً، وظهر لنا برؤى العين ذلك الدير الأثرى القابع فى صحراء «شيهيت» بمناراته وقبابه فى الأفق تحت قرص الشمس التى انعكست أشعتها الصفراء على الأشجار الوارفة حوله والمزارع الخضراء التى تحيطه، والتى أخفت رمال البرية، وحينما اقتربنا منه أوقفتنا نقطة تفتيش أمنية، قبل أن ندلف إلى داخل الأسوار الشاهقة التى تُخفى خلفها جدراناً عتيقة تحدّت الزمن ببعض الترميمات لتحفظ بهاء القرن الرابع الميلادى الذى شُيدت فيه.
لم تعد صحراء شيهيت -وادى النطرون التى تقع على الأطراف الشمالية الشرقية للصحراء الغربية المصرية- الآن كما كانت فى القرن الرابع الميلادى، ولم يعد هذا الدير كما شيّده الأولون، إلا من بعض المعالم.
قرعت الأجراس حينما شممنا رائحة بخور يخرج من بين نوافد الكنيسة القديمة، ويصدح خورس الشمامسة (جوقة المرتلين فى الكنيسة) بالترانيم والألحان القبطية، بينما وقف دليلنا بملابسه الرهبانية السوداء، يتدلى من عنقه صليب خشبى، يضع على عينيه نظارة طبية، فيما كان الشعر الأبيض فى ذقنه يطغى على الأسود الذى توارى، طلب منا أن نناديه بـ«الأب كيرلس»، دون أن نذكر اسم الدير، لأنه غير مخول بالحديث للإعلام، طبقاً لتعليمات الكنيسة.
راعى كنيسة «العذراء» بالزيتون: بعد دخول المسلمين مصر عرفوا وتكلموا وتداولوا اللغة القبطية فى حياتهم اليومية
أخذنا إلى مقصدنا، المنعزل عن قلالى -مساكن- الرهبان، والذى يطلق عليه «القصر القديم» أو «الحصن»، وهو بناء مربع المساحة، حوائطه من الحجارة الضخمة المكسوة ببياض «الجبس» والخالية من أى سمات معمارية أو زخرفية مميزة، ليس له باب فى الدور الأرضى، بل يعلو بابه عن الأرض بمقدار 6 أمتار، وهو الباب الذى يمتد أمامه ممر خشبى متحرّك يسمى «القنطرة»، ويرتكز فى نهايته على بناء مقابل يتم الصعود إليه بسلم من الأرض، وكان فى القرون الوسطى عند الخطر يتم رفع الممر من داخل الحصن بسلاسل حديدية حتى يقوم عمودياً أمام فتحة الباب، فيتعذّر فتحه، أما الآن فهو مثبت.
المصريون أنشئوا أول جامعة لاهوتية يعرفها العالم المسيحى بالإسكندرية
يتكون البناء من 3 طوابق، تشعر داخله أنك فى بيت سحرى من بيوت الأساطير، يخيّم الصمت الثقيل على المكان، أخذنا دليلنا إلى الدور الأرضى عبر سلم حجرى لم نعد درجاته المبنية من حجارة مختارة غير منحوتة، حتى وصلنا إلى بسطة مربعة ثم اتجهنا بزاوية قائمة إلى اليسار، هابطين 5 درجات أخرى من السلم الحجرى لنصل إلى دهليز شديد الضيق لا يزيد عرضه على 1.50 متر، بينما يبلغ ارتفاعه 5 أمتار، مغطى بقبو نصف أسطوانى مدبّب من الحجارة المكحولة غير المنتظمة، على طول 20 متراً، تشعر داخله برطوبة الهواء التى بدأت تؤثر على الرسومات والكتابة المنقوشة على أحجار جدرانه العتيقة، وأخذ يحدّثنا الأب الراهب عن اللغة القبطية التى خطت على الأحجار، مشيراً إلى أن مصر عرفت اللغة القبطية قبل أن تعرف الديانة المسيحية، قائلاً: «اللغة القبطية هى آخر مراحل تطور اللغة المصرية القديمة، التى صمدت أمام الاحتلال البطلمى عام 323 ق.م - 30 ق.م، الذى جعل اللغة اليونانية هى اللغة الرسمية لمصر، حيث بقيت القبطية لغة الشعب، حتى فى ظل تبعية مصر للإمبراطورية الرومانية وسيادة اللغة اليونانية طوال أكثر من 670 عاماً خلال الفترة ما بين 30 ق.م - 641م، ودخول العرب مصر».
القس باسيليوس: «القبطية» آخر مراحل تطور اللغة المصرية القديمة المنطوقة
ويقول القس باسيليوس صبحى، راعى كنيسة السيدة العذراء بالزيتون، والباحث فى التاريخ والتراث القبطى، لـ«الوطن»: «هناك شبه اتفاق بين العلماء على أن الحضارات تكمل بعضها، ولا توجد حضارة وفكر إنسانى من فراغ، فاللغة القبطية كانت آخر مراحل تطور اللغة المصرية القديمة المنطوقة، وتمت كتابتها بالاستعانة بالحروف اليونانية مع سبع حركات صوتية لم تكن موجودة فى اليونانية، واللغة تعيش على ألسنة الناس، ويتم تناقلها من جيل إلى جيل، وظلت حية قروناً وقروناً حتى بعد دخول العرب إلى مصر، وهذا موروث إنسانى حضارى، وعرف المسلمون بعد دخولهم مصر القبطية وتكلموا بها وتداولوها فى حياتهم اليومية، لأنها لغة أهل البلد، وينظر إلى اللغة بمنظور بعيد عن الدين، والنصوص التى وصلت من اللغة القبطية نصوص دينية، ولكن وصلت نصوص أخرى أدبية وطبية ليس لها علاقة بالدين، فاللغة غير مرتبطة بالدين».
وحينما عرفت مصر الديانة المسيحية فى القرن الأول للميلاد على يد القديس مارمرقس الرسول، صارت اللغة القبطية هى لغة الكنيسة التى كُتبت بها الأناجيل والنصوص الدينية والطقسية، وحافظت الكنيسة على اللغة من الاندثار والانصهار، كما حافظت على التقويم المصرى القديم لشهور السنة، وهو التقويم ذاته الذى يعمل به فى مصر حتى اليوم فى نظام الزراعة، واشتقت من هذا التقويم الأمثال الشعبية الدارجة مثل: «بابة ادخل واقفل البوابة»، و«كيهك صباحك مساك»، و«طوبة تخلّى الصبية كركوبة»، و«برمهات روح الغيط وهات»، و«أمشير أبوالزعابيب كتير».
ورغم أن اللغة المصرية القديمة اندثرت، واللغة القبطية انحصرت فى صلوات الكنيسة، إلا أن مفرداتهما عاشت على ألسنة العامة حتى اليوم، فهناك من الباحثين من رصد 13 ألف مفردة قبطية محكية، وهناك من وجد أكثر من ذلك، ومنها كقول المصريين: «كانى ومانى» بمعنى لبن وعسل، و«فنخ» بمعنى فسد، و«فشخرة» بمعنى تباهى، و«ورور» بمعنى طازج أو صغير السن، و«بَح» بمعنى انتهى أو تم، و«كُخّة» معناها القذارة، و«هجّاس» بمعنى كثير الكذب، و«محلسة» بمعنى التودّد الزائد، و«لبشة» بمعنى حزمة، و«مشلفطة» وتعنى غير متناسقة، و«باش» وتعنى ابتل، و«حالّو» بمعنى شيخ، ومنها اشتُقت الأغنية الرمضانية الشعبية الشهيرة «حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو»، وهى تُقال بقصد طلب العيدية من الشيخ، و«أوطة» بمعنى طماطم، بل إن هناك أسماء قرى ومحافظات مصرية ما زالت تحمل أسماءها القبطية مثل: «أسوان» وأصلها سوان بمعنى السوق فى القبطية، و«قنا» وأصلها قينى بمعنى يحتضن، وغير ذلك الكثير.
بل إن القبطية امتُزجت بالأغنية الفلكلورية المصرية لتتشابه الكلمات التى تُقال للمسيحيين مع المسلمين، منها: «على فين يا مقدسة بتوبك القطيفة/ رايحة أزور المسيح وأعول الضعيفة»، والتى جاء على وزنها «رايحة فين يا حاجة يا أم الشال قطيفة/ رايحة أزور النبى والكعبة الشريفة»، وكذلك «إن نويت يا مقدس خد أبيض وشيله/ عند بحر الشريعة يا محلى غسيله»، وجاء على نسقها «لما نويت يا حاج خد الأبيض وشيله/ على جبل عرفات يا محلى غسيله»، وأغنية «يا بهية وخبّرينى مين قتل ياسين»، والتى تأتى وزناً ومعنى من الفلكلور القبطى الذى غنّى للعذراء «يا مريم خبّرينى مين قتل يسوع/ قتلوه اليهود فوق الصليب مرفوع».
لم يكن دليلنا إلا امتداداً لرهبان البرارى الذين عرفتهم مصر فى القرن الثالث الميلادى بالشكل المتعارَف عليه حالياً، أولئك الذين هاموا على وجوههم يبحثون عن «الرب» لـ«خلاص» نفوسهم، حسب المفهوم المسيحى، تاركين الدنيا وزخرفها، زادهم الصلاة، وماؤهم ذكر الله، واهبين حياتهم لمناجاته فى مغائر بالجبال، ناذرين له الصوم، متقشفين عن متاع الدنيا وملذاتها، نساكاً، عباداً، وتصير على مدى القرون «الرهبنة القبطية» المعلم والمثال لهذا النوع من العبادة فى العالم كله، بعد أن شُيّدت فى دروب الصحراء، الأسوار والحصون وعُرفت باسم «الأديرة».
قال الأب كيرلس، دليلنا فى الرحلة، إن الرهبنة القبطية تتميز بطقسها، فهى ليست متاحة لكل مسيحى، بل لها شروط وخطوات ليحصل القبطى على لقب «راهب»، طبقاً للقوانين الكنسية، ففى الدير يمر الراغب فى الرهبنة بـ3 مراحل حتى يحصل على لقب «راهب»، لذا قليل ممن يتعلق بالأديرة، تهفو أرواحهم للهدوء والسكينة، يكرسون أوقاتهم للصلاة والعبادة، وتختارهم الكنيسة بعناية بعد التأكد من صدق رغبتهم، وبعد استيفاء عدة شروط متعلقة بالسن والمؤهل والحالة الاجتماعية إذ لا يُقبل المتزوجون أو من سبقت لهم الخطبة، حيث تقوم فلسفة الرهبنة على «الطاعة، والفقر الاختيارى، والتبتل الطوعى».
ويضيف الراهب: «فى المرحلة الأخيرة من تحول «المسيحى» إلى «راهب»، يجرى عليه طقس رسامة الرهبان، إذ يقف طالب الرهبنة أمام هيكل الكنيسة، يردّد التعهد الرهبانى خلف رئيس الدير الذى يقرأه عليه، وبعد ذلك ينام على ظهره ووجهه نحو الشرق ضاماً كلتا يديه على صدره فى شكل الصليب، ثم يغطونه بستر مثل الميت وتُقرأ قراءات طقسية، منها صلوات التجنيز حسب الاعتقاد الكنسى، والتى فيها رمزية، وبعد ذلك يُرفع الستر عنه، والذى يشبه الكفن، فيقف الراهب أمام رئيس الدير أو البابا الذى يبدأ فى قص شعره فى خمسة مواضع تكوّن شكل الصليب ناطقاً باسمه الجديد، حيث يتخلى عن اسمه الذى أطلقه عليه والداه ويختار هو أو رئيس ديره اسماً جديداً من أسماء القديسين أو الملائكة، ويتم إلباس الراهب ملابس الرهبنة السوداء، والقلنسوة وهى غطاء للرأس».
عرفت الرهبنة قبل المسيحية، حسب بعض المراجع التاريخية، إلا أنها على يد الأقباط وبسبب الاضطهاد الرومانى للمسيحيين فى مصر فى القرون الأولى، تطورت لتأخذ شكلها المميز الذى تم تصديره إلى العالم كله بعد ذلك.
البابا تواضروس: الأديرة مقر للعلوم والمعارف والآداب الكتابية والآبائية والنُّسكية
وتناثرت الأديرة فى صحراء مصر، وعكف رهبانها على التعليم والعبادة، فكانت صوامع الرهبان تعج بالكتب والمخطوطات، وصارت سمة أساسية فى كل دير أن تُقام به مكتبة، فيقول البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية: «الأديرة فى حياة الكنيسة مقر للعلوم والمعارف والآداب الكتابية والآبائية والنسكية، ورغم عدم اهتمام الرهبان بالكتابة فى بدايات الرهبنة، فإن الحركة الرهبانية خلقت نوعاً من المعارف المسيحية كالمقالات والكتابات والأقوال والسير مثل (التاريخ اللوسياكى) بقلم بالاديوس، أسقف هليوبوليس عام 430م، ويُعتبر مصدراً لتاريخ الرهبان، ومثل (هستوريا موناخورم)، أى التاريخ الرهبانى المبنى على السير الرهبانية عام 395م، وغيرها الكثير».
الرهبان حفظوا التراث بعد أن أمر «الحاكم بأمر الله» بقطع لسان من يستخدم اللغة القبطية والمصريون أنشأوا أول جامعة لاهوتية
ويقول القمص ميخائيل جريس، كاهن كنيسة السيدة العذراء مريم ببيجام، فى منطقة شبرا الخيمة، بالقليوبية، إنه «عندما حضر مارمرقس إلى مصر كانت الإسكندرية مركزاً مهماً للثقافة الوثنية، وفى مدرستها الوثنية ومكتبتها الشهيرة (مكتبة الإسكندرية) تخرّج كثير من الفلاسفة والعلماء، فكان لا بد أن تقام مدرسة لاهوتية لتثبيت الناس فى الدين وترد على أفكار الوثنيين، وهكذا أنشأ مدرسة لاهوتية مسيحية فى الإسكندرية كانت تناهض الوثنية بكل طاقتها، حتى إنها أدخلت الفلسفة الوثنية (اليونانية) فى دراستها، وبلغت أهمية تلك المدرسة أن اعتبر الهروب من الدراسة فيها (كفراً)».
كان الحائط الشرقى لدهليز «حصن» الدير الذى دخلناه تتخلله ثلاثة مداخل، لكل منها عقد حجرى نصف دائرى، وتؤدى هذه المداخل إلى ثلاث حجرات كبيرة، دخلنا الحجرة الثالثة فكانت صماء، فارغة يتوسط حائطها الغربى باب خشبى، قال الراهب «كيرلس» وهو يخرج من طيات ملابسه مفتاحاً كبيراً، إن الباب تم تركيبه خلال العقود الأخيرة، حيث كان بديله فى الماضى الأحجار التى توهم الداخل بأنه لا فتحة فى الحائط، وفتح مزلاج صدئ أحدث فتحه صريراً، وهو يواصل حديثه: «كانت مصر التى تباركت بزيارة العائلة المقدسة لها، مصدراً مهماً للتاريخ المسيحى، كما كانت الإسكندرية منارة للثقافة والعلوم، ولكن بسبب الخلافات الدينية بين رجال الكنيسة فى الشرق والغرب والتدخلات السياسية حدث الانقسام الكبير وظهرت الطوائف المسيحية المعروفة حالياً بعد انعقاد ما عُرف تاريخياً بـ(مجمع خلقيدونية) عام 451م، وتقوقعت الكنيسة المصرية داخل ذاتها، وتعرّضت لكثير من المتغيرات السياسية والدينية، إلا أن الرهبنة صارت الحصن الذى أنقذ التراث القبطى على مدار القرون الماضية عبر مهمة (الناسخ) و(المنسوخ)، وحفظت تراث الأجداد من السرقة والتلف والإهمال، بعد أن صار هذا التاريخ الغنى الذى خطته أنامل رهبان البرارى، عرضة للضياع بسبب الإهمال المتعمّد للغة القبطية، حيث يذكر التاريخ أن والى مصر عبدالله بن عبدالملك، أصدر مرسوم تعريب الدواوين عام 706م، لتكون لغة الدواوين الرسمية فى المراسلات، وفى عام 849م أصدر الخليفة المتوكل منشوراً يدعو فيه لأن يتعلم اليهود والنصارى اللغة العربية، ولكن الشعب المصرى استمر فى التحدث باللغة القبطية فى ما بينهم وفى حياتهم اليومية، حتى أمر الحاكم بأمر الله بمنع استخدام اللغة القبطية فى الحياة اليومية، وقيل قطع لسان من يتحدث بها».
ويقول عن ذلك القمص متى المسكين، أشهر رهبان الكنيسة فى القرن العشرين (1919م - 2006م)، فى كتابه السيرة الذاتية: «استيقظ الأقباط وإذا بهم قد نسوا لغتهم الأصلية، فباتت كل مخطوطاتهم التى ملأت خزانات الكتب فى البيوت والكنائس والأديرة مئات الألوف المكتوبة باليونانية والقبطية بلا أى قيمة ولا معنى ولا أثر، كحجر رشيد الملقى على شاطئ البحر ينتظر من يترجمه لأولادها، ولهذا كانوا يفرّطون فى بيعها لسارقى المخطوطات من الأجانب».
وهذا التاريخ القبطى الذى وصفه الدكتور ميلاد حنا (1924 - 2012م)، بأنه أحد أعمدة الشخصية المصرية، كان مطمع الغزاة والرحالة والمستشرقين الأوروبيين، خاصة بعد ما تركته حروب القرون الوسطى الدينية من اضمحلال وجهل وتخلف فى دول القارة العجوز، ورأوْا فى التراث القبطى ومخطوطاته كنزاً مباحاً تربحوا من ورائه بالمضاربة به فى متاحف الغرب ومكتبات أوروبا.
اللغة القبطية كانت مفتاح «شامبليون» لحل لغز اللغة «الهيروغليفية» وفك طلاسم الحضارة الفرعونية
إلا أن هذا التراث، وتحديداً اللغة القبطية، كان مفتاح العالم الفرنسى جان فرانسوا شامبليون (1790 - 1832م) لحل لغز اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية»، وفك طلاسم الحضارة الفرعونية التى تُركت صماء على جدران المعابد والمقابر، بعد أن استعصى حلها لقرون على يد الكثير من العلماء الذين حاولوا لهذا سبيلاً.
د. لؤي سعيد: الكثيرون لا يذكرون الكاهن الذي ساعد «شامبليون» ولم يبحث أحد فيما ترك خلفه
يقول الدكتور لؤى سعيد، مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، لـ«الوطن»: «التقط شامبليون طرف الخيط لحل لغز اللغة المصرية القديمة من دراسته للغة القبطية، التى لم تعد تُستخدم إلا فى صلوات وطقوس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وتُكتب بحروف يونانية، ولا توجد لها علاقة ظاهرية بالخط الهيروغليفى، فمنذ القرن الرابع الميلادى لم يُنقش شىء بالخط الهيروغليفى فى مصر، وذهب سر (الهيروغليفية) مع آخر كهنة مصر القديمة. وكان شامبليون قد استمع لأول مرة فى حياته إلى قداس باللغة القبطية فى كنيسة بإحدى ضواحى باريس، هى «سان روش»، التى تعرّف فيها على الكاهن المصرى (يوحنا شفتشى)، الذى جاء إلى فرنسا عام 1802م، وتعلم شامبليون على يديه اللغة القبطية».
ويضيف «سعيد» أن الكثيرين لا يذكرون «شفتشى» ويتناسون فضله، حتى إنه حينما توفى فى الخارج لا يعرف قبره ولم يبحث أحد فى ما ترك خلفه.
و«يوحنا شفتشى» وُلد فى القاهرة لعائلة من «تجار الذهب»، وعمل مترجماً لدى الحملة الفرنسية، التى قام بها الجنرال نابليون بونابرت فى الفترة (1798 - 1801م)، وغادر مصر إلى فرنسا مع الفيلق القبطى بقيادة المعلم يعقوب؛ وعثر العالم المصرى الراحل الدكتور أنور لوقا (1927 - 2004م) فى مخطوطات المكتبة الوطنية بباريس على إشارة مقتضبة وردت فى خطاب من وزير الداخلية الفرنسى إلى أحد العلماء بالمدرسة المركزية يسأله عن رأيه فى الاستعانة بكاهن قبطى اسمه يوحنا يُقال إنه واسع العلم باللغات الشرقية.
وعمل «شفتشى» كاهناً مقيماً فى إحدى كنائس ضواحى باريس عندما قصده الطالب «شامبليون» ليأخذ منه دروساً خصوصية فى نطق اللغة القبطية، وظل راعياً للأقباط المهاجرين إلى فرنسا؛ حتى قرر أن يرحل فى سنة 1825م إلى مدينة مرسيليا بإيطاليا، التى توفى فيها خلال العام نفسه تقريباً، كما تذكر بعض المراجع.
واستطاع «شامبليون» بفضل اللغة القبطية، فك رموز حجر رشيد، الذى تم اكتشافه على يد الضابط «بيير فرانسوا بوشار» فى 19 يوليو 1799م أثناء إجراء تحصينات عسكرية، وهو الحجر الذى تعود نقوشه إلى عام 196 قبل الميلاد، وهو يحوى مرسوماً ملكياً صدر فى مدينة منف، تخليداً للحاكم بطليموس الخامس، كتبه الكهنة ليقرأه العامة والخاصة من المصريين والطبقة الحاكمة، فجاء نصه بلغتين وثلاثة خطوط: «الهيروغليفى»، اللغة الرسمية فى مصر القديمة، و«الديموطيقى»، الكتابة الشعبية فى مصر القديمة، و«اليونانى القديم»، لغة الطبقة الحاكمة فى ذلك الوقت.
والحجر الذى تم تسليمه للقوات الإنجليزية، وأصبح ضمن مقتنيات المتحف البريطانى منذ عام 1802م، نسخ الفرنسيون نقوشه، ليستعين بها بعد ذلك «شامبليون»، ويعلن اكتشافه الكبير، مستعيناً باللغة القبطية، رغم أن هناك من سبقه فى محاولة فك رموز اللغة الهيروغليفية عن طريق الربط مع اللغة القبطية، وذلك عبر الراهب اليسوعى الألمانى أثناسيوس كرشر (1601 - 1680م)، إلا أن جهوده لم يُكتب لها النجاح، رغم أنه يُعد المؤسس الحقيقى لعلم القبطيات، وأخرج أول كتاب لقواعد اللغة القبطية، وأول معجم قبطى عام 1644م.
وبينما تغافل البعض فضل «شفتشى»، نال «شامبليون» عضوية أكاديمية النقوش والآداب فى عام 1830م، وعُيّن أستاذاً فى «الكوليج دى فرانس» عام 1831م، فى تخصّص أُنشئ خصيصاً له، وهو الآثار المصرية، وظهر بعد ذلك ما سُمى بـ«علم المصريات» فى أوروبا.
ورغم ما مرت به مصر فإن اللغة القبطية تظهر عبقرية المصريين الذين احتفظوا بلغتهم فى الصدور، بعد أن أصبحت اللغة العربية هى اللغة الرسمية لمصر، بل ما زال المصريون حتى اليوم يستخدمون مفردات قبطية فى لغتهم اليومية، إلى جوار استخدامها فى صلوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.