الهجوم الحوثى على مأرب وتقسيم اليمن
فى عام 1990، وبعد ثلاثة أشهر من إعلان اليمن دولة موحّدة تجمع بين الشطرين الجنوبى والشمالى، وأثناء استكمال دراسة ميدانية عن الوحدة اليمنية وتأثيراتها الإقليمية، صدرت لاحقاً فى كتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، التقيت فى عدن الجميلة والمنظمة آنذاك، مع بعض الصحفيين والباحثين والأكاديميين؛ منهم من كان منتمياً إلى الحزب الاشتراكى اليمنى الذى حكم اليمن الديمقراطى فى الجنوب منذ 1967، ومنهم مستقلون، وآخرون كانوا منتمين إلى أحزاب جنوبية كانت تُدار من خارج اليمن، وعاد قادتها مع إعلان الوحدة للعيش فى اليمن الموحد.
زمن اللقاء ترافق مع تداعيات دخول الجيش العراقى للكويت، والموقف اليمنى آنذاك الذى أيّد ضم الكويت للعراق، مما ترتب عليه موقف خليجى صارم وعودة آلاف اليمنيين العاملين من السعودية والكويت. فى ذلك اللقاء كان السؤال الذى يشغل بالى يتعلق بمستقبل الوحدة اليمنية، وهل لديها مقومات الاستمرار؟ جاءت الإجابات والتأكيدات بأن وحدة اليمن كانت وستظل الحلم الكبير والطموح الأكبر لكل اليمنيين، وأن جميع المعارك العسكرية التى جرت بين الشطرين قبل الوحدة، ارتبطت بالدعوة إلى إنهاء التشطير. أما عن مقومات الاستمرار، فأكد الحضور المختلفون فكرياً وسياسياً أنها مقومات أصيلة فى وجدان كل يمنى، وهى كفيلة بتجاوز كل الصعوبات أياً كان مصدرها؛ أعداء الوحدة فى الداخل أو فى الإقليم.
حين أتذكر هذه التأكيدات القديمة وأقارنها مع ما يجرى بالفعل فى اليمن منذ ست سنوات، ينتابنى شعور جارف بأن عقارب الساعة اليمنية تسير عكس الزمن، وأن اليمن الموحّد يشارف على التجزئة والتشظى، وفى أقل الأمور سوءاً أن يعود الشطران السابقان إلى وضعهما القديم، كيان فى الشمال وآخر فى الجنوب. وللأسف الشديد ولأسباب مختلفة تبلورت اتجاهات انفصالية فى المحافظات الجنوبية منذ حرب صيف 1994 إبان حكم الرئيس السابق على عبدالله صالح، وما ترتب عليها من مظالم هائلة، تمّت معالجتها جزئياً خلال الحوار الوطنى الذى استمر عاماً كاملاً 2013 فى ظل المرحلة الانتقالية، ولكنها عادت بقوة مع الانقلاب الحوثى على مخرجات الحوار الوطنى، ثم تداعيات الحرب من 2015 إلى الآن، حيث أخذت طابع التنظيم وتبلور كيانات سياسية وأمنية تطالب بالانفصال، انطلاقاً من قناعة بأن الجنوب منذ الوحدة تعرّض لمعاناة شديدة ومظالم لا حصر لها، قادتها نزعة فى الشمال للهيمنة على مقدّرات الجنوب وحرمان أهله من ثرواته الطبيعية، فضلاً عن تدنى وضعية المواطن «الجنوبى»، مقارنة بنظيره الشمالى، فضلاً عن أن الحرب الدائرة فى المحافظات الشمالية لا تخص الجنوب، والأفضل حسب رؤيتهم أن تعود عقارب الساعة مرة أخرى إلى ما قبل مايو 1990، حيث لكل شطر هويته المستقلة.
لم يكن أمام التحالف المُساند للحكومة الشرعية الُمعترَف بها دولياً سوى بذل جهد مضاعف لاحتواء نزعات الانفصال وإعادة تأكيد أن وحدة اليمن ليست محلاً للمساومة أو التراجع، وانتهى الأمر إلى صياغة علاقة شراكة بين الحكومة الشرعية وممثلى المجلس الانتقالى الجنوبى، كآلية لتأكيد وحدة اليمن من جانب، وجمع كل الجهود اليمنية لمواجهة الحركة الحوثية من جانب آخر. ويُعد تشكيل حكومة الكفاءات السياسية برئاسة معين عبدالملك ديسمبر 2020 خطوة مهمة فى هذا الاتجاه، رغم ما تواجهه من صعوبات كبيرة.
فى الجانب الآخر، الحركة الحوثية وأنصارها المحليون، تبدو نزعة الانفصال بالشمال أصيلة ومدمرة لكل محاولات ومساعى الحفاظ على وحدة اليمن. إذ تعتقد أن بإمكانها السيطرة على المحافظات الشمالية، وتعميم نموذجها الخاص فى الحكم بتلك المحافظات، واستعادة كيان الشمال كما كان قبل الوحدة كدولة مستقلة تحت سيطرتها التامة. وثمة عبارة كاشفة منسوبة إلى القيادى الحوثى محمد عبدالملك، قيلت بعد انقلاب سبتمبر 1914، بأن الهدف الأسمى هو استكمال السيطرة على شمال البلاد، ثم بعد ذلك التفاوض على مصير الجنوب.
التحرّكات الحوثية بشأن الانفصال بالشمال اليمنى لم تتوقف طوال السنوات الست الماضية، وتشمل ثلاثة مستويات متكاملة؛ أولها مستوى دعم سيطرتها الكاملة على العاصمة صنعاء وجوارها ودمج قبائلها فى مشروعها «العقيدى/ السياسى» لحركة أنصار الله الحوثية، وقد حقّقت فيها نجاحاً كبيراً. وثانيها الانفراد بالحكم وعدم السماح بأى صيغة للشراكة مع أى تيار يمنى آخر، وتوظيف العنف بكل مستوياته المادية والمعنوية لتثبيت الانفراد بالحكم، وتثبيت هيمنة المشروع الحوثى على عموم المناطق التى يتم السيطرة عليها فى المحافظات الشمالية، لا سيما السيطرة الكاملة على المنظومات الإدارية المحلية والخدمية، والوصول إلى نقاط الحدود القديمة بين الشطرين وتثبيت السيطرة المباشرة عليها كما حدث فى محافظات أبين والضالع ولحج، مع الاستمرار فى محاصرة المدن والمناطق الحضرية التى يصعب السيطرة المباشرة عليها، كما هو الحال بالنسبة لتعز المُحاصرة منذ أربع سنوات، وقطع الطريق الذى يربط عدن بالمحافظات الشمالية.
ورابعاً الهجوم على مأرب لغرض السيطرة على الموارد النفطية، وبالتالى تعزيز الاستقلال الاقتصادى للشمال الحوثى. ويلاحظ أن الهجوم على مأرب جاء فى ظل المواقف الأمريكية الجديدة لإدارة «بايدن»؛ وأهمها وقف دعم حملة التحالف العسكرية بالمعلومات الميدانية أولاً بأول عن تحركات المسلحين الحوثيين العسكرية، وإلغاء قرار الرئيس ترامب بتصنيف الحركة الحوثية حركة إرهابية، والدعوة إلى وقف القتال، وتعيين مبعوث أمريكى خاص للأزمة اليمنية. وهى تحركات صبّت عملياً فى دعم الحركة الحوثية ومشروعها السياسى العقيدى، وعزّز رؤيتها بأن المواقف الأمريكية الجديدة هى بشائر الانتصار.
فى هذه الملابسات انطلق الهجوم الحوثى وفق استراتيجية الموجات المتتالية، صوب مأرب المدينة التى تحتضن مليونين من اليمنيين النازحين من سطوة الحوثيين على مدنهم وقراهم فى الشمال، وحال تمكنهم من السيطرة عليها فسوف تمثل أكبر جائزة لمشروع الانفصال الحوثى. ووفقاً لتصريحات قيادات حوثية فإن هذا الهجوم قد أُعد له منذ فترة سابقة ولن يتوقف إلا بعد إتمام السيطرة على جميع البنية النفطية فى المحافظة، واستعادة ما يرونه ثروات الشمال.
حال السيطرة الحوثية على مأرب تكتمل لهم السيطرة المباشرة على ما يقرب من 90 فى المائة من محافظات الشمال. عملية إحياء الحدود الشطرية ستبدو مهمة سهلة بالنسبة لهم، لا سيما بعد وضعهم حواجز جمركية منذ فترة فى مناطق الحدود الشطرية، وقيامهم بقطع الطرق بين عدن وصنعاء. إنه الحلم الذى يرونه بات قاب قوسين أو أدنى من أن يكون واقعاً، ولتذهب وحدة اليمن إلى الجحيم.