الفول البلدي «بروتين الغلابة» مهدد بالضياع

الفول البلدي «بروتين الغلابة» مهدد بالضياع
غذاء شبه يومى يعتاده المصريون كل صباح، يقودهم إلى سلوك استهلاكى كثيف لنبات «الفول»، الذى لا يخلو منه منزل أو مطعم لتميزه بأنه الأنسب من حيث احتوائه على النسب المرتفعة للبروتين، التى تصل إلى نحو 28% ونحو 58% من الكربوهيدرات وفيتامينات وعناصر غذائية أخرى، ولم يكن هذا المحصول مصدراً للتغذية الجيدة فى مصر فقط، فهو أساسى أيضاً لتحسين خواص تربة الأرض وزيادة خصوبتها بترك نحو 20-30 وحدة آزوتية لكل فدان بعد الحصاد ليستفيد منها المحصول التالى.
يعاني منافسة «المستورد» والإهمال والآفات وانهيار منظومة الإرشاد الزراعي
قبل 10 سنوات كان الفلاحون يتسابقون فى زراعته، لعلمهم جيداً بما سيجنونه من هذا المحصول الرائع، ففيه الغذاء للإنسان والحيوان والأرض، كانت زراعته منتشرة ويحقق الاكتفاء الذاتى، ولم تكن مصر وقتها تطرق باب الاستيراد، لكن بظهور الآفات الزراعية وانهيار منظومة الإرشاد الزراعى تكبد الفلاحون خسائر من زراعته، فلم يعد بمقدورهم التغلب على مشكلات الأرض وانخفاض الإنتاجية، بينما تُركوا وحدهم بلا مرشد ولا دليل، بينما يقبع الباحثون فى مركز البحوث لإنتاج الأصناف الجديدة الملائمة لهذه المتغيرات وكل منهما فى واد.. الفلاحون فى الأرض، والباحثون داخل معاملهم.. من دون جسر الإرشاد الزراعى، ليضطر أغلب الفلاحين للتخلى عن هذا المحصول ويلجأوا إلى محاصيل أخرى، حتى تصل الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك إلى60% وفق تقرير معهد المحاصيل الحقلية الصادر قبل أيام. «الوطن» تفتح ملف مشكلات «الفول البلدى» لتتعرف على معاناة الفلاحين خلال زراعته، والتقلص الحاد فى مساحة الرقعة الزراعية، مع ازدياد الاستيراد للفول الأقل جودة وسعراً.
«عبدالستار»: آخر مرة زرعته خسرت فى الفدان 9 آلاف جنيه و«حلفت ما أزرعه تاني»
كان من محبى زراعة نبات الفول واعتاد على زراعته، بعد أن ورث أسرار الزراعة من أبيه وجده فى قرية كفور نجم بمركز الإبراهيمية التابع لمحافظة الشرقية، حتى إنه تولى مهمة زراعة كل الأرض التى تعود إليه وإخوته بعد وفاة والده، البالغة 80 فداناً، وكان يخصص جزءاً كبيراً منها لزراعة هذا المحصول الشهير، واهتم بمشكلات المحاصيل الزراعية ليلقب محمد عبدالستار، بنقيب الفلاحين الزراعيين، 49 عاماً، لكن الرجل عزف عن زراعة «الفول» التى اعتاد عليها منذ أن كان فى الـ15 من عمره، ليروى: «كنت بزرع وأنا عندى 15 سنة فى الأرض، لكن من 5 سنين حلفت يمين وأقسمت ما أزرع الفول ده تانى بعد ما خسرت فى الفدان الواحد 9 آلاف جنيه، لأنى كنت مأجر الأرض، أنا عندى أرض ومستأجر فى نفس الوقت»، لافتاً إلى أن زراعة الفول لا تضمن أرباحاً بسبب عدم استقرار سعره ووجود عمليات استيراد كبيرة من الخارج لأصناف أقل جودة وأقل سعراً، ما يؤثر على عمليات بيع الفلاحين لمحاصيلهم. ويضيف «عبدالستار» نقيب الزراعيين، أن تراجع مساحات الرقعة الزراعية لمحصول الفول نتيجة طبيعية لخسائر الفلاحين من زراعته أو عدم تحقيق أرباح، ما جعل هناك مجازفة فى زراعته فى وقت وجود منافسة مع محاصيل شتوية أخرى كالقمح والبنجر وتفضيل الفلاحين هذه المحاصيل، بجانب مشكلات زراعية أخرى تقلل من إنتاجيته وتسبب الخسائر، فى ظل وجود تغيرات مناخية أثرت على الأصناف المصرية وأضعفت إنتاجها -حسب قوله- وأن السلالات الحالية لا تتناسب مع البيئة والمناخ الحالى، ما تسبب فى أن يقلع الفلاحون عن زراعته، معلقاً: «الفول الصينى تلاقيه بيوصل 5 جنيه للكيلو، وعندنا علشان نزرعه تكلفة زراعته بس 10 جنيه، ودى فجوة رهيبة، وفدان الفول بنصرف عليه 15 ألف»، موضحاً أن إيجار الفدان الواحد 5 آلاف جنيه، بينما تكلفة التقاوى والتسميد والمبيدات والرى وعملية الحصاد تصل إلى 10 آلاف جنيه، مشيراً إلى أن آخر زرعة فيها محصول الفول كانت منذ 5 سنوات بمساحة 35 فداناً، وإنتاجية 11 أردباً ونصف الأردب للفدان، وخسارته جاءت بعد تسديد قيمة الإيجار ودفع المصروفات والعمال وغيرها، وأن المحاصيل قل إنتاجها عن الماضى فى ظل غياب دور الإرشاد الزراعى وظهور الآفات والحشرات التى تهدد النباتات وتقلل الإنتاجية، قائلاً: «كنت من عشاق زراعة الفول وسبته للأبد وغيرى كتير عملوا كده، والمشكلات اللى عندى دى هى اللى موجودة عند بقية الفلاحين لأنى متابعهم وبتكلم بصوتهم».
«الأمير»: بعت المحصول «قطاعي» للجيران
ويشير حمادة الأمير، 40 عاماً، من مركز إسنا بمحافظة الأقصر، إلى أن محصول الفول لم يعد يحقق النتائج المرجوة منه، وأن زراعته أصبحت محفوفة بالمخاطر، لأن إنتاجه تقلص إلى حد كبير، مشيراً إلى أنه زرع الموسم الماضى 4 أفدنة، وبسبب قلة الإنتاجية ومنافسة الفول المستورد له، اضطر إلى بيعه بالتجزئة للجيران وفى الأسواق المحيطة، لكى يتمكن من سداد قيمة المصروفات التى أنفقها على زراعته، قائلاً: «اضطريت أبيعه للناس بالكيلو علشان ألم فلوس الناس، إنما زمان من قبل جدودنا كان الفدان بيجيب كميات كبيرة والأسمدة والتقاوى كانت متوفرة فى جمعيات الإصلاح الزراعى، وكان فيه مشرف زراعى، لكن دلوقتى كل الكلام ده بطل خلاص»، لافتاً إلى أن المزارع يضطر إلى أن يأتى بأى مشرف من خارج الجمعية الزراعية ليرشده إلى علاج أمراض الأرض، ويضطر أن يشترى منه السم والأدوية، لكى يوافق المشرف على زيارة أرضه وإرشاده، قائلاً: «المشرف ده شخص عادى مش موظف ولا حاجة، بس عنده خبرة وبيبيع سم ومبيدات». ويضيف «الأمير» أنه بعد ما أنفق الكثير على محصول الفول جنى 9.5 أردب عن كل فدان -الأردب 180 كيلوجراماً- وأنه باع الأردب بـ3 آلاف جنيه، مؤكداً أن وزارة الزراعة فى الماضى كانت تعطى الفلاحين ملحاً يزيد من خصوبة التربة ومادة «سلوفات نشادر بلجيكى» المفيدة للتربة، وكانت توفره بـ100 جنيه للجوال بالجمعيات الزراعية، ولكن الآن يتم شراؤه بقيمة ألف جنيه، وأن هذا النقص الحاد والإهمال الحكومى بدأ قبل 4 سنوات.
«النوبي»: «الزراعة» حددت 175 ألف فدان ولم تزرع سوى 80 ألفاً ومسئولة عن تراجع المساحات
ويقول النوبى أبواللوز، أمين عام نقابة الفلاحين الزراعيين، إن وزارة الزراعة حددت الموسم الماضى زراعة 175 ألف فدان من محصول الفول ولكن لم يُزرع سوى 80 ألف فدان فقط، وإن المسئولية تقع على عاتق وزارة الزراعة فى إنقاذ محصول الفول وزيادة رقعته، لأن بيدها أن تتحكم فى زراعته بتخصيص الأراضى التابعة لها فى زراعة هذا المحصول، خاصة أن وزارة الزراعة هى التى تحدد المساحات التى تزرع لكل صنف للحد من الاستيراد، من خلال حقولها الاسترشادية المملوكة لها، وهى أراض متناثرة فى كل أنحاء الجمهورية، ومنها مشروعا توشكى والعوينات وغيرهما، وجميعها تتبع قطاع الإنتاج بوزارة الزراعة، وأوضح أن الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك تعود إلى الوزارة، لأنها ترى بمرور السنوات تقلص مساحات الفول من دون أى تحرك فعلى، وأنه فى هذه الأوقات الحرجة يمكن أن تعيد تفعيل الإرشاد الزراعى ليقوم بدوره فى مقاومة الأمراض والحشرات، مُعلقاً: «نقص واختفاء المرشدين الزراعيين فى الجمعيات الزراعية خلى المحاصيل تضعف والفلاح ما بقاش دارس كويس أمراض النباتات وإزاى يتعامل معاها، فقلت الإنتاجية، وبعدين الدولة حظرت تصدير البقوليات يعنى عايزة يكون اكتفاء ذاتى، طيب ليه مش بتعمل ده فى الحقيقة مع الفلاح وتزود الإنتاجية». ويتوقع «النوبى» أن يؤثر وباء كورونا على الأسعار بالسلب، حيث إن كميات الفول المستورد متوفرة ولم يستهلك منها الكثير بسبب إجراءات الحظر وتأثيره على عملية الاستهلاك، وأن هذا سيؤدى إلى تخفيض سعره خلال الموسم المقبل، قائلاً: «الأسعار نزلت، الطن البلدى كان بـ31 ألف جنيه، نزل لحد ما بقى بـ11 ألف بس، والمستورد نزل، كمان الأسترالى بقى بـ9 آلاف بعد ما كان بـ10.5 ألف جنيه، والفول الإنجليزى كان بـ8 آلاف دلوقتى بقى بـ7 آلاف»، مشيراً إلى أن إنتاجية الفدان انخفضت خلال السنوات الأخيرة من 15 أردباً للفدان إلى 8 أو 10 أرادب بسبب إهمال وزارة الزراعة للفلاحين والمشكلات التى تواجههم، ما جعل الفلاح يبحث عن محاصيل تحقق ربحاً له دون مجازفة.
«عبدالنبي»: يجب تدخل الدولة لإنقاذه ودعم مستلزماته وتسعيره وشرائه مثل القمح لأنهما يتساويان في الأهمية الاستراتيجية
ويطالب عبدالنبى سعيد، أحد المزارعين بمركز الغنايم بأسيوط، الحكومة بالتدخل وتوفير الأسمدة والمستلزمات الزراعية فى الجمعيات الزراعية بدلاً من شرائها من الخارج، ما يقلل من تكلفة الإنتاج على الفلاحين ليواصلوا زراعة محصول الفول، حيث إن تخفيض تكلفة الإنتاج بدعم السولار والكهرباء، والمبيدات والأسمدة إلى جانب عودة دور الإرشاد الزراعى لتحقيق زيادة فى المحصول، قد يحقق الأرباح للفلاحين ما يجعل هناك تهافتاً من الفلاحين على المحصول، مشيراً إلى أنه فى الموسم الأخير زرع 3 أفدنة ولم يحقق منها أى أرباح بسبب قلة إنتاج المحصول وغياب المرشدين الزراعيين لحل مشكلات الأرض، متوقعاً أن زراعته ستنخفض باستمرار، قائلاً: «أنا بأكد إن لو الدولة ما اتدخلتش وعدلت الميزان شوية فى محصول الفول، قدام الفول المستورد، هيتقلص ومش هيتزرع تانى، محدش هيرضى بالخسارة، وبعدين لو اهتموا بالفول هنا مش هيضطروا يشتروا بالعملة الصعبة»، مطالباً بالزراعة التعاقدية وأن تسعر الدولة محصول الفول وتشتريه مثل القمح فهو لا يختلف عن القمح من حيث الأهمية. وقال أحمد الباشا إدريس، عضو مجلس إدارة غرف القاهرة ورئيس شعبة الحاصلات الزراعية، إن الفول البلدى غير مستهلك فى المطاعم لارتفاع سعره عن المستورد بنسبة 60 إلى 70% وفى بعض الأوقات تصل إلى الضعف، وأن أغلب المطاعم لا يهمها العناصر الغذائية الموجودة فى الفول، مشيراً إلى أن استهلاك الفول فى مصر شهرياً يصل إلى 60 ألف طن، ويتم استهلاك 70% منه فى المطاعم، والـ30% فى المنازل، وأن الدول المصدرة للفول هى أستراليا التى تحصل على نصيب الأسد بنسبة 60% ثم كندا وفرنسا وليتوانيا، وفى العام الماضى انضمت إثيوبيا والمغرب، لافتاً إلى أن الفجوة فى الإنتاج والاستهلاك أكثر من المعلن عنه بأنه 60% فقط، متوقعاً أن تصل إلى 90%، مؤكداً أن التعداد السكانى المتزايد وانهيار زراعة الفول السبب فى كميات الاستيراد الكبيرة.