قلعة الحديد والصلب المصرية بين التصفية والريادة
قرار الجمعية العامة غير العادية لشركة الحديد والصلب المصرية أحد قلاع الصناعات الثقيلة المصرية، بتصفيه نشاط الحديد والصلب بعد 67 سنة من تأسيسها، وتأسيس شركة مساهمة جديدة يقتصر نشاطها على المحاجر تحت اسم شركة الحديد والصلب للمناجم والمحاجر، أثار موجة شديدة من النقاش والجدل في الشارع المصري عن أثار القرار المبدئية والمستقبلية على الحالة الاجتماعية والاقتصادية للدولة. حيث سيعمل في الشركة الجديدة نحو 400 عامل فقط، هم العاملين حاليا في قطاع المناجم بالشركة، من أصل 7500 عامل بالشركة الأم، وستتملك الشركة 4 مناجم تنتج خام الحديد، كانت تمد الخامات لمصنع حلوان.
وتعد شركة الحديد والصلب المصرية، أول شركة للحديد والصلب بالشرق الأوسط، تأسست عام 1954،وهي شركة ذات بعد استراتيجي، والوحيدة التي تنفرد بإنتاج الحديد الزهر من الخامات المحلية المأخوذة من خام مناجم الواحات البحرية، إلى أن تحوله إلى منتج نهائي قادر على المنافسة في الأسواق العالمية، وتعتمد تكنولوجيا التصنيع في الشركة على استخلاص الحديد من خاماته الأولية من خلال عدة مراحل، تبدء باستخراج الخامات، من مناجم الواحات البحرية، والحجر الجيري والدولوميت من محاجر الأدبية بالسويس وإنتهاء بصناعة نواتج التصنيع المختلفة. وتستحوذ القابضة للصناعات المعدنية على 82.4% من أسهم الحديد والصلب وبنك مصر على نسبة 7.51% فى إطار صفقة مبادلة ديون.
وأزمة شركة الحديد والصلب المصرية قديمة، نتيجة تراكم العديد من الأخطاء، أبرزها استمرار خسائر الشركة منذ أكثر من 10 سنوات ما أدى إلى تآكل رأس مال الشركة. حيث تعاني الشركة من خسائر فادحة وصلت إلى تحقيق 4 ملايين جنيه خسائر يومية خلال الربع الأول من العام المالى الجارى، وقد بلغت الخسائر المتراكمة حوالي 9.5 مليار جنيه تم دفع جزء منها عن طريق التسويات للبنوك، ويتبقى 8.2 مليار، ووصل حجم الانتاج إلى 100 ألف طن سنويا (بعد كانت قد تجاوزت إنتاجيته 1.5 مليون طن سنويا في فترة السبعينيات من الصلب المشكل على هيئة ألواح مختلفة الأحجام والسمك وقضبان ومستلزمات السكك الحديدية والصناعات الحربية، بالإضافة إلى الزوايا والكمرات والستائر الحديدية وأنابيب ومستودعات البترول وغيرها من احتياجات الصناعة المختلفة والتي كنا نستوردها سنوياً، كذلك أنتج المصنع منتجات أخرى ذات قيمة اقتصادية كبيرة منها السماد الفسفوري، خبث الأفران العالية الذي يستخدم في صناعة الأسمنت وكذلك كميات هائلة من غاز الأفران الذي استخدم لتشغيل بعض الآلات في المصنع ذاته، كما استخدم في توليد الكهرباء). وكان لشركة “الحديد والصلب”، دور رئيسي فى بناء السد العالى، وتوفير الألواح والكمرات الصلب التى تم استخدامها فى بناء جسم السد.
هذا وسبق أن أعلنت الحكومة عن محاولات متعددة لإعادة إحياء الشركة لانقاذ صناعة الحديد والصلب الوطنية، وقد تقدم العديد من المكاتب والشركات العالمية المتخصصة في هذا المجال منها الانجليزية والهندية والروسية وقد أجمعوا جميعا على صعوبة التطوير وإرتفاع تكلفته وانخفاض العائد من منه نظرا لتقادم المعدات الموجودة بالمصانع وتهالكها وإرتفاع مصاريف تشغيلها.
وتمتلك شركة الحديد والصلب، أصولاً ضخمة غير مستغلة، منها حوالي 790 فدانًا بحوزة الشركة بمنطقة التبين، و654 فدانًا بالواحات البحرية، و54 فدانًا مشتراة من الشركة القومية للأسمنت منذ عام 1979، و45 ألف متر مربع بأسوان، بالإضافة إلى كميات ضخمة من الخردة تصل إلى 600 ألف طن، بالإضافة إلى جبل التراب الذى يحتوى على خردة تقدر بـ700 ألف طن، تم تقدير الخردة فقط بنحو 5 مليارات جنيه. وكذلك تمتلك الشركة مخزون استراتيجى حوالي 200 مليون طن خامات بمناجم الشركة بأسوان والواحات البحرية، وعلى رأسها منجم "الجديدة" بالواحات.
وبلغت الطاقات الإنتاجية الحالية لصناعة الحديد والصلب المصرية نحو 15.6 مليون طن عام 2019، وهو ما يمثل نحو 36% من الطاقات الإنتاجية المتاحة بقارة أفريقيا، كذلك على نحو 26% من إجمالى الطاقات الإنتاجية العربية. كما إن مصر تملك العديد من الإمكانات التى تؤهلها لأن تصبح رائدة صناعة الصلب فى الشرق الأوسط وأفريقيا: حيث تملك مصر ظهيرا صحراويا من الأراضى الصالحة لتوطين الصناعة ونموها وتوسعها بصورة كبيرة تتفوق بها على كافة دول الخليج وتركيا وجنوب افريقيا. ويعد قطاع الصناعة فى مصر هو أحد قاطرات النمو، لما يساهم به هذا القطاع من توفير آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة بشكل سنوى، تعمل بالعديد من القطاعات والأنشطة الاقتصادية التى ترتبط بصناعة الحديد والصلب مثل النقل والتشييد والبناء، كما أن هناك العديد من الصناعات القائمة على تلك المنتجات والتي تشهد نموا مطردا مثل صناعة الهياكل المعدنية وهياكل السيارات والصناعات الحربية والقطارات والكباري والالات والمعدات والأجهزة المنزلية وصناعة المواسير وغيرها.
وتتركز مشاكل الشركة الحالية في البنود التالية:
1- قلة تركيز الحديد في الخام الموجود بمنجم الشركة باسوان والواحات البحرية، مما يرفع تكاليف الانتاج، ومن المعروف أن كل زيادة بنسبة 1% من الحديد في الخام يقابله خفض استهلاك الكوك بنسبة من 0.8 - 1.2% وزيادة إنتاج الأفران من 1.5- 2% ما يعني زيادة الإنتاجية بنسب يمكن أن تتخطي الـ 30%، مما يمثل قيمة مضافة كبيرة للعملية الإنتاجية. وهذه المناجم تستلزم ضرورة توفير المياه اللازمة، حيث تعتبر الآبار هى مصدرها الوحيد للحصول على المياه، بينما تعتمد نسبة تركيز الحديد فى جميع أنحاء العالم على المياه بصورة رئيسية.
2- إبتعاد الشركة عن التوسع في نشاط الدرفلة وإنتاج حديد التسليح رغم الحاجة الملحة لإنتاج هذه النوعية للاقبال الشديد عليها، وقدرتها على استيعاب كافة المخزون الراكد لدى الشركة من القضبان الحديدية المخصصة لإنتاج حديد التسليح.
3- توقف العديد من خطوط الإنتاج بصورة متكررة نتيجة تقادم الآلات والمعدات، وهو ما انعكس فى زيادة نسبة الأعطال والتوقفات حيث بلغت 93% خلال العام المالى الحالى نتيجة تقادم الآلات والمعدات مقابل 82% العام السابق ما يعنى أن نسبة استغلال الزمن المتاح للإنتاج بلغت 7% فقط.
4- تزايد عدد العمال بالشركة بصورة غير مسبوقة مما يمثل عبئ ضخم على موازنات الشركة، إذ بلغ عدد عمال الشركة نحو 7500 عامل يتقاضون أجورًا تتخطى حاجز الـ50 مليون جنيه شهريًا، ونحو 56 مليون جنيه منحة سنوية، حيث بلغ بند الأجور في السنة المالية الماضية 827 مليون جنيه.
5- إرتفاع أسعار الطاقة كالغاز والكهرباء وكذلك المواد الخام المستوردة نتيجة لتعويم الجنيه المفاجئة مما ساهم في إرتفاع مصاريف التشغيل وإنعدام القدرة على المنافسة بالأسواق وزيادة خسائر الشركة بصورة متسارعة.
6- عدم القدرة على سداد الالتزامات والمتطلبات المالية، وهو ما يظهر جليًا فى تراكم المديونيات للموردين الرئيسيين للشركة والبالغة نحو 5.372 مليار جنيه للعام الحالى مقابل 4.5 مليار جنيه للعام السابق، لصالح كل من شركة الغاز بقيمة 3.513 مليار جنيه، شركة الكهرباء 1.591 مليار جنيه، شركة الكوك 462 مليون جنيه، سكك حديد مصر 126 مليون جنيه، الضرائب 128.5 مليون جنيه.
7- إرتفاع الجمارك على معدات الإنتاج لهذه الصناعة الاستراتيجية مما يساهم في رفع مصاريف التشغيل.
8- عدم مطابقة معظم إنتاج الأفران العالية للمواصفات حيث بلغت نسبة الحديد غير المطابق للمواصفات نحو 79% من إنتاج الأفران هذا بخلاف المخلفات.
9- عدم توافر المخزون الاستراتيجى من خام فحم الكوك لانخفاض توريدات شركة الكوك نتيجة لتراكم الديون، وقيام الشركة باستيراد احتياجات ما يكفى الإنتاج لمدة شهر واحد فقط بالعملة الصعبة.
10- إنخفاض المبيعات بنسبة تصل إلى 28%، كنتيجة متوقعة لضعف الانتاج.
11- خسائر مرحلة من أعوام سابقة بلغت حوالي 8.5 مليار جنيه.
ولكن من الجوانب المشرقة في هذا الموضوع أن السيد الرئيس قد وجه الحكومة باتخاذ عدة تدابير حمائية في أعقاب جائحة الكورونا وتقديم دعم للمتضررين بكافة القطاعات يتمثل في:
1- تخفيض أسعار الطاقة للصناعة، حيث انخفض سعر توريد الغاز الطبيعى للصناعة من 5.5 دولار أمريكى لكل مليون وحدة حرارية بريطانية إلى 4.5 دولار أمريكى.
2- تخفيض أسعار الكهرباء بقيمة 10 قروش للكيلو وات ساعة فى مارس 2020، فضلاُ عن تثبيت أسعار الكهرباء للصناعة لمدة خمس سنوات.
3- قدم البنك المركزى المصرى أيضا مجموعة من الإجراءات لدعم الاقتصاد المصرى ومنها:
أ- تخفيض أسعار الفائدة على الإقراض من 16.8% فى إبريل 2019 إلى 11.8% فى إبريل 2020.
ب- تأجيل سداد مدفوعات أقساط القروض للشركات الصناعية لمدة ستة أشهر دون أى غرامات.
ج- تقديم فوائد مخفضة تحفيزية للشركات الصناعية.
ومن المنتظر زيادة استهلاك مشروعات البنية التحية من الحديد والصلب بالسوق المحلية خلال المرحلة المقبلة ليرتفع من 30- 50% مع بدء التوسع في المصانع الجديدة والكباري وصناعة القطارت والسيارات وعربات المترو.
ونقترح ألا يتم تصفية هذه الشركة العملاقة لما تمثلة من قدرات وإمكانيات ضخمة وصناعة استراتيجية هامة لايمكن الاستغناء عنها أو تعويضها باعتبارها أحد قلاع الصناعات الثقيلة بمصر، وتضم رأس مال بشري لايقدر بمال، ولقدرتها على ضبط سوق الصلب ليس في مصر فقط ولكن بالسوق الإقليمي أيضا، وهذه بعض المقترحات الاسترشادية للخروج بها من محنتها: ونقترح إما إمكانية ضم أصول الشركة للصندوق السيادى المصرى، والذى لديه وظيفة رئيسية وهى استغلال أصول وموارد الدولة غير المستغلة وفقًا لضوابط استثمارية صحيحة تحقق الكفاءة وأفضل عائد ممكن، أو قيام الشركة القابضة للصناعات المعدنية المالكة ل 82% من أصول المصنع، باستغلال الأراضى الشاسعة للشركة التى تمتد فى جنوب القاهرة والتي يمكن الاستغناء عنها والتي تبلغ قيمتها مليارات من الجنيهات والاستفادة من تدفقاتها النقدية فى إعادة هيكلة شاملة للشركة بموقع آخر من أملاك الشركة بجوار محاجرها سواءا بأسوان أو الواحات البحرية.
على أن تراعي الملاحظات التالية للمصانع الجديدة المقترحة:
1- إقامة مصانع حديد وصلب ذات تكنولوجيا عالية، وفقا لأحدث تكنولوجيا الصلب المستقبلية الصديقة للبيئة، موفرة للطاقة وتستطيع إستخلاص الحديد من الخامات الفقيرة أى الاقل تركيز، والتي تشكل نسبة عالية من مدخلات انتاج باقي مصانع الحديد والصلب المصرية والتي يملك المصنع كمية ضخمة منها تقدر قيمتها بالمليارات، لتحقيق الجدوى الاقتصادية من المشروع. وإستكمال البنية التحتية للموقع الجديد وربطه مع موانئ البحرين المتوسط والأحمر بخطوط سكة حديد وطرق برية عالية الكفاءة، وكذلك خطوط للطاقة، مع إمكانية إقامة محطة كهرباء متجددة خاصة بالمشروع الجديد لخفض مصاريف التشغيل والحفاظ على البيئة.
2- إقامة مصنعان، الأول لزيادة تركيز الخام المستخرج، والثاني لمكورات خام البليت، ويمكنهما تغطية تكاليف إنشاؤهما في فترة وجيزة وتحقيق أرباح عالية، نظرا لإعتماد كافة مصانع الصلب الأخرى عليهما كأهم مدخلات التشغيل، ووفقا لآخر الإحصائيات يبلغ إجمالي استهلاك المصانع المصرية لتلك المكورات ما يزيد عن 9 مليون طن سنوياً، ويتم حاليا إستيراد معظمه من الخارج بالعملة الصعبة، وحيث أن مخرجات مصنع التركيز هي مدخلات مصنع المكورات لذلك يعد هذين المصنعين إضافة قوية للمزايا النسبية الأهم للمصانع الجديدة والمتمثلة في الخام وزيادة قيمته المضافة.
3- أن يتم استمرار العمل بالمصانع الحالية والحفاظ على الأصول التي يمكن إستمرار تشغيلها بالمصانع الجديدة المقترحة، لحين الإنتهاء من تشييد وتجهيز البنية التحتية اللازمة لهم للمصانع الجديدة، وحل مشكلة العمالة الضخمة المحملة بها الشركة حاليا، وصرف التعويضات اللازمة لهم من ناتج بيع بعض الأصول، والاقتصار على العدد اللازم للتشغيل الاقتصادي، تمهيدا للإنتقال للمقر الجديد. حيث أن المكسب الحقيقي من المشروعات القومية الكبرى هو خلق قاعدة بشرية ضخمة من الكوادر المصرية للعمل في مشروعات باستخدام أحدث تكنولوجيا في العالم داخل وخارج مصر.
4- تفعيل خط انتاج حديد التسليح الموجود حاليا بالفعل ولن يُكلف الشركة أية أعباء مالية، للمساهمة في تشغيل المخزون الراكد لدى الشركة حاليا، وكذلك آلاف الأطنان من الخرده، لتعظيم الاستفادة منهم بأقصى درجة.
5- التعاون مع معامل تكرير البترول بأسيوط ومسطرد والقريبة من الموقع الجديد لتوريد فحم الكوك، حيث يعد أحد مدخلات انتاج الحديد والصلب، ولتوفير ملايين الجنيهات كانت تخصص لاستيراده من الخارج.
نتمني ان تتجه الحكومة لحلول خارج الصندوق وتعيد النظر في قرار التصفية لانقاذ هذه الصناعة الاستراتيجية وتحقيق الاكتفاء الذاتي داخل الاسواق المصرية من مدخلات الانتاج وتطوير وتحديث هذه الصناعة وبما يضمن تلبية احتياجات السوق المحلي والاقليمي.