زواج الرسول من زينب بنت جحش لم يكن لقضاء «شهوة» وإنما لبيان شريعة وإبطال «التبنى»
وقع بعض الناس ممن فى قلوبهم مرض فى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بكلمات يتهمونه فيها بشهوانية زواجه من أم المؤمنين زينب بنت جحش، ويقولون لك: إن الكلام موجود عند الإمام ابن جرير الطبرى، أن رسول الله افتتن بزينب بنت جحش. نقول لهم إنهم يجب أن يعودوا إلى المتخصصين قبل التحدث فى شىء؛ ففى الطب يعودون للأطباء، وفى الهندسة إلى المهندسين، فهل عدتم إلى المتخصصين فى علم الحديث عند المسلمين؟.
يقول الإمام محمد بن جرير الطبرى فى مقدمة موسوعته التاريخية، تاريخ الرسل والملوك الجزء الأول:
«وليعلم فى كتابنا هذا أن اعتمادى فى كل ما أحضرت ذكره إنما هو على ما رويت من أخبار، والآثار التى مُسندها إلى رواتها، فما يكن فى كتابى هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً فى الصحة، فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قِبَلنا، وإنما أوتى به من بعض ناقليه إلينا».
والإمام الطبرى هنا يروى ما بلغه من أخبار وروايات سواء صحّت فى بعضها أم لم تصح، ويمكن أن يموت العالم قبل فحص الروايات أو الحكم عليها، وهذا الصيد الثمين من الروايات المكذوبة يستشهد به أعداء الإسلام، ثم يقولون: «هذا من كلامكم»، دون أن يكونوا باحثين منصفين، وإليك أخى القارئ الحقيقة كما رُويت لنا بالسند الصحيح لنصل إلى الحق معاً: إن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، كان كفل زيداً، وكان يُدعى زيد بن محمد، بالتبنى. ومن مناقبه أنه تربى عند النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وكان زيد أول من أسلم من الموالى، وهاجر زيد إلى المدينة مثل المسلمين، وحضر مع النبى غزوة بدر، وهو الذى بشّر أهل المدينة بالنصر، وكان رسول الله يؤمّره فى عدد من الغزوات على الصحابة الكرام، وكلم زيد رسول الله أنه يريد الزواج من زينب بنت عمة رسول الله.[Quote_1]
كانت زينب بنت جحش جميلة، فضلاً عن أنها حسيبة ونسيبة، فذهب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليخطبها إلى زيد بن حارثة، كما جاء ذلك بسند صحيح، أن النبى خطب زينب وهو يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت واستنكفت وقالت أنا خير منه حسباً ونسباً، وامتنعت وغضبت، وقالت للنبى صلى الله عليه وسلم: لست متزوجة منه، أأُجبر على نفسى، أنا خير منه حسباً ونسباً، أنا من قريش، وزيد كان عبداً مملوكاً يباع فى الأسواق، وكان عبدالله بن جحش، أخوها، يرى رأيها ويقول بقولها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها غاضباً، ونزل بعد ذلك قوله وتعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً»، (الأحزاب 36)، فلما نزلت هذه الآية، وسمعتها زينب وأخوها، قالت: أرضى بما يرضى الله ورسوله.
وسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فلما جاءها، قالت: أرضيت لى يا رسول الله زوجاً؟ قال: نعم، قالت: رضيتُ بما رضيتَ لى.
وتزوجته، ولكنها كانت دائماً تشعر أنها لا تستطيع العيش معه، فكان زيد يسترضيها بكل ما يستطيع، ولكنها لم ترض عنه، وظلت نافرة، فكان زيد يشكو قسوتها إلى رسول الله، وما يفتقده من السكينة والحنان معها، ويرجو أن يأذن له فى فراقها، فكان رسول الله يصبّره ويقول له: «أمسك عليك زوجك»، ثم أراد الله تبارك وتعالى أن يبطل التبنى، فبدأ بمتبنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون هو القدوة لغيره فى هذه المسألة، ثم امتثل رسول الله لأمر ربه: «ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ»، وقال تعالى: «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»، فأصبح حراماً على زيد أن يقول أنا زيد بن محمد، ونُزع منه هذا الشرف والفخر، وعلم الله وحشته من ذلك، فشرّفه بخصيصة لم يكن يخصُّ بها أحداً من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، وهى أنه سماه فى القرآن باسمه، وقال تعالى: «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرَاً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً»، أى من زينب، وصار اسمه قرآناً يُتلى فى المحاريب إلى يوم القيامة، فكان هذا تأنيساً له وعوضاً من الفخر بأبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واسم زيد إلى الآن فى الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، تذكره فى التلاوة، ثم أنزل الله تبارك وتعالى قوله: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ»، (الأحزاب 37) أى أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه النبى صلى الله عليه وآله وسلم، بالعتق، وأمسك عليك زوجك: أى زينب، واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه: وهو حكم الله بأن زيداً سيطلقها حتماً وتتزوجها أنت لتنفيذ شرع الله وهو إبطال التبنى، وتخشى الناس: أن يعيّروك بمخالفة تقليد من تقاليد الجاهلية وهو التبنى، والله أحق أن تخشاه، أى استمر على خشيتك له، تبارك وتعالى وحده، ولا تخشَ إلا الله وحده، فلما قضى زيد منها وطراً: أى عاشرها مدة وانتهت حاجته منها ثم انتهت عدتها، «زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرَاً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً».
وذكر الإمام القرطبى، عن الإمام على بن الحسين: أوحى الله إلى نبيِّه أن زيداً سيطلق «زينب»، وأن الله يزوجها الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله يقول لزيد أمسك عليك زوجك، إلى أن ينزل أمر الله، وأما الذى أخفاه فى نفسه، هو أن الله سيزوّجه زينب رضى الله عنها. ثم قال القرطبى بعد أن ذكر هذا القول: قال علماؤنا رحمهم الله، وهذا القول أحسن ما قيل فى تأويل هذه الآية، وهو ما عليه التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، وقال الترمذى الحكيم، فى نوادر الأصول، وأسند إلى على بن الحسين، قوله، وجاء بهذا من خزانة العلم جوهراً من الجواهر ودرراً من الدرر.
وأشار الإمام فخر الرازى، فى تفسيره، أن تزويج السيدة زينب من النبى صلى الله عليه وسلم، لم يكن لقضاء شهوة بل لبيان الشريعة بفعله، حتى يبيّن أن التبنى أُلغى، فإنه يستفاد من فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وهكذا يتبين أن الأمر تكليف من الله، ولم تكن شهوة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، كما يزعمون، ولو كان الأمر كذلك، لتزوجها وهى بكر، دون أدنى مشكلة؛ لأنها ابنة عمته.
وبعد أن طلقها زيد، وقضت عدتها، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت دائماً تتفاخر على زوجات النبى صلى الله عليه وآله وسلم، أن الله هو الذى زوجها من الرسول، لقوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرَاً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَى لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً». هذه هى الحقيقة التى يجب أن يعلمها الجميع، وأسأل الله العلىّ القدير أن يعلّمنا وأن يفهّمنا وأن يجعلنا منصفين، وأنا أفخر أننى أحد المعتصمين أمام إحدى السينمات، فى لندن، التى كان يُعرض فيها فيلم يسىء إلى السيد المسيح، وكنا أكثر من 5 آلاف مسلم، وجرى إيقاف الفيلم؛ لأننا نحب أنبياء الله جميعاً، كما نحب نبى الله الحبيب، محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.