القرامطة يسرقون الحجر الأسود.. ويردمون زمزم بجثث الحجيج
تراجعت أدوار الشيعة الزيدية فى مواجهة الدولة العباسية بعد زوال الدولة البويهية، وبدأت دولة الخلافة السنية تواجه حرباً أشد وأقسى من جانب أنصار المذهب «الإسماعيلى» الذين زلزلوا «العباسيين» من عدة جهات، بل وتمكنوا من تأسيس خلافة شيعية نافست الخلافة العباسية «السنية» لما يزيد على قرنين من الزمان، وذلك من خلال الخلافة الفاطمية التى امتدت دولتها بطول دول ساحل البحر المتوسط والشام ووصلت فى أحوال إلى بغداد، واتخذت من القاهرة عاصمة لها. وسوف نتوقف عند عدد من محطات سيرة ومسيرة هذه الدولة فيما بعد، فنحن الآن بصدد تحليل ثورة القرامطة.
تنسب دولة القرامطة إلى «حمدان بن الأشعث» الذى كان يلقب بـ«قرمط» بسبب قصر قامته وساقيه، أما مؤسس الدولة فهو أبوسعيد الجنابى القرمطى، وقد جعل من «البحرين» مركزاً له، وأخذ يغير منه على الدول الأخرى المجاورة له، ويلقب «الجنابى» بـ«رأس القرامطة». وقد تأسست دولة القرامطة على المذهب «الإسماعيلى»، لكنها نابذت الدولة الفاطمية العداء، رغم أن الأخيرة شاركتها المذهب؛ فقد كان لدى القرامطة مشروعهم الخاص فى بناء الدولة، من خلال ما يمكن أن نطلق عليه بالمصطلح الحديث «اقتصاديات الغزو والإغارة على الآخرين»، ولم يضع القرامطة لأنفسهم أية حدود أو قيود فى سبيل تحقيق هذا الهدف، وقد بلغ الأمر بهم حد الإغارة على حجاج بيت الله الحرام وسلبهم ونهبهم. ويذكر «ابن كثير» أن ابن أبى سعيد الجنابى، واسمه «أبوطاهر سليمان»، «اعترض الحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام وقد أدوا فرض الله عليهم فقطع عليهم الطريق فقاتلوه دفعاً عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم فقتل منهم خلقاً كثيراً لا يعلمهم إلا الله، وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره، واصطفى من أموالهم ما أراد، فكان مبلغ ما أخذه منهم يزيد على ألف ألف دينار، ومن الأمتعة والمتاجر نحو ذلك، وترك بقية الناس بعدما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم، على بُعد الديار فى تلك الفيافى والبرِّيَّة بلا ماء ولا زاد ولا محمل، وقد جاحف عن الناس نائب الكوفة أبوالهيجاء عبدالله بن حمدان فهزمه وأسره، وكان عدة من مع القرمطى ثمانمائة مقاتل، وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة».
كان القرامطة شديدى البأس عظيمى العنف، يعتمدون على إرعاب عدوهم بكل الطرق الممكنة؛ بالتوسع فى القتل والسلب والنهب والاعتداء، الأمر الذى أصاب أهل المدن والقرى المتاخمة للبحرين بالذعر والخوف. تحرك «أبوطاهر» بعد ذلك إلى العراق، وحاول جنود الخليفة العباسى «المقتدر» إيقافه دون جدوى، حتى تمكن من الوصول إلى الكوفة، وأصيب أهل بغداد بالذعر والرعب، نظراً لما هو معروف عن القرامطة من قسوة، فحدثت حركة نزوح جماعى، وهاجر أهل غرب بغداد إلى شرقها، واجتاح «أبوطاهر» بغداد إلى الأنبار، وواصل الزحف بجيشه حتى بلغ الموصل، وكان كلما وصل إلى مدينة بالغ فى قتل وسحق أهلها حتى يصيب الرعب والفزع أهل المدن الأخرى، وقد نجح أسلوبه هذا فى إسقاط عدد من المدن بعد انسحاب المقاتلين منها.
لم يكتف «أبوطاهر» بقطع طريق الحجيج، بل تعمد الزحف إلى مكة واجتياح المسجد الحرام، فهجم على الحجيج يوم التروية -كما يحكى ابن كثير- فانتهب أموال الحجيج واستباح قتالهم، فقتل فى رحاب مكة وشعابها وفى المسجد الحرام وفى جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس «أبوطاهر» على باب الكعبة والرجال تُصرع حوله والسيوف تعمل فى الناس فى المسجد الحرام، وكان الناس يفرون من القرامطة فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدى ذلك عنهم شيئاً، بل يُقتلون وهم كذلك ويطوفون فيُقتلون فى الطواف. فلما انتهى «أبوطاهر» من تلك المذبحة فى جوف الكعبة أمر أن تدفن القتلى فى بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم فى أماكنهم من الحرم وفى المسجد الحرام، وهدم قبة زمزم وأمر بقلع الكعبة ونزع كسوتها عنها وقسمها بين أصحابه، واستولى على الحجر الأسود ليمكث عند القرامطة اثنتين وعشرين سنة. وتوفى «أبوطاهر» عام 332هـ.
لعب كل من السلاجقة والفاطميين دوراً فى القضاء على دولة القرامطة التى يصنفها البعض بأنها شكلت محاولة لبناء دولة اشتراكية تنتصر للمستضعفين فى الأرض -كما يذهب الدكتور طه حسين- حين حاولت الخروج على النظام السياسى والاجتماعى الظالم وتحقيق العدل فى الأرض التى أفسدها الجور والظلم، لكن جهدها فى النهاية كان ضائعاً، لأنها ما إن انتهت من تقليم الأظافر الظالمة للعباسيين حتى أسست لظلم جديد على يديها، فأصبح الذين يحاولون إزالة الظلم وإقرار العدل أنصاراً للظلم وأعداء للعدل!