محمد حسنين هيكل يكتب: الفرسان الثلاثة فى مغامرة السويس الخائبة.. وماذا يريدون؟

محمد حسنين هيكل يكتب: الفرسان الثلاثة فى مغامرة السويس الخائبة.. وماذا يريدون؟
لا أظن أن داج همرشولد، السكرتير العام للأمم المتحدة، لقى أو سيلقى من القاهرة أى متاعب أو عقبات من أى نوع، وأغلب الظن أن كل المتاعب والعقبات سوف تكون فى انتظاره على الناحية الثانية، حين يفرغ من مهمته فى مصر ويبدأ عمله فى استطلاع الجانب الآخر للصورة. لا متاعب ولا عقبات من مصر لأن موقف مصر واضح يعرفه السكرتير العام للأمم المتحدة منذ الساعة الأولى التى بدأت فيها اتصالاته المباشرة بمشاكل الشرق الأوسط.
المتاعب والعقبات هناك، كلها هناك، عند هؤلاء الفرسان الثلاثة لمغامرة السويس الذين عرفوا الآن وتبين لهم بما لا يدع مجالاً للشك أن أخيب مغامرة فى التاريخ، على طول التاريخ، كانت هى مغامرتهم فى السويس.
موقف بريطانيا:
ماذا يريد البريطانيون؟ ماذا يريدون الآن؟ وما الذى سيجده «همرشولد» عندهم؟ عندما ينتقل إلى الناحية الثانية ويبدأ فى استطلاع الجانب الآخر من الصورة، أول الفرسان وأكبرهم فى مغامرة السويس الخائبة، الدلائل كلها حتى الآن تشير إلى أن بريطانيا لا تريد السلام فى الشرق الأوسط أن يستقر.. لماذا؟
الجواب ببساطة هو أنه إذا استقر السلام الآن فى الشرق الأوسط فقط انتهى من بريطانيا بعد مغامرة السويس، إذا استقر السلام الآن فإن الفضل فى ذلك سوف يعود إلى الأمم المتحدة، والذين تعاونوا من أجل تثبيت دعائم الحق والعدل والحرية فى المجتمع الدولى، وليس هذا ما تريده بريطانيا، لقد كانت بريطانيا تعيش على أسطورة أنها تعرف ما لا يعرفه غيرها عن الشرق الأوسط.. بلاده وناسه وزعمائه، واندفعت بريطانيا إلى حماقة السويس بعناد الذى يؤمن بأن ما يقوله هو اليوم سوف يقوله الكل من بعده فى الغد، وإذا كانت الأصوات ترتفع لتعارضه، فسيتبين للذين يعارضون أن معارضتهم كانت تعامياً عن الحقائق، ولكن الحقائق ما تلبث أن تبين.
فشلت مغامرة السويس واتجهت سياسة بريطانيا إلى السلبية، لكنها السلبية المتربصة؛ سلبية من يقول إذا كنت لم أنجح أنا فلن ينجح غيرى، وإن كنت قد سقطت فليسقط كل شىء بعدى. إنها لا تريد للأمم المتحدة أن تنجح، فإن معنى نجاح الأمم المتحدة فشل بريطانيا فشلاً مادياً ملموساً.
موقف فرنسا:
ثم فرنسا، أكثر الفرسان الثلاثة حماقة وطيشاً فى مغامرة السويس، ما هى بدورها حكايتها؟ لقد وصلت فرنسا إلى السويس عن طريق الجزائر، ذلك شىء لا مجال لنكرانه أو الجدال فيه.. كانت فرنسا تسير على طريق الهزيمة، طريق طويل شاق، ملىء بالجن والأشباح. من معالمه الشهيرة ديان بيان فو فى الهند الصينية حيث استطاع زعيم عجوز اسمه هوشى منه وقائد شاب اسمه جياب أن يرغما قوات فرنسا العظيمة على أن تتحول إلى قطعان من الأرانب المذعورة الهاربة، ومن معارك الطريق الشهيرة مراكش، ومن معالمه الشهيرة تونس، ثم جاءت آخر مرحلة فى الطريق وأخطر المعالم الجزائر.
والأمر الذى يدعو للعجب أن الوزارة الحالية فى فرنسا بدأت مشكلة الجزائر بداية أشد ما تكون اختلافاً عن النهاية التى وصلت إليها، لقد بدأ رئيس الوزراء الاشتراكى «موليه» وزارته بإعلان كبير قال فيه إنه يعتزم أن يفوض قوات الجزائر من أجل صلح تستقر به الأمور ويعود معه السلام، ثم أصدر «موليه» أمراً بتعيين الجنرال «كاترو» حاكماً عاما للجزائر، وشهرة «كاترو» أنه جنرال مفاوض أكثر منه جنرالاً محارباً.. وكان معنى تعيينه مفهوماً على الأقل بالنسبة للفرنسيين المستعمرين.
وعندما جاء «موليه» إلى الجزائر هاجم المتظاهرون «موليه»، وفى ثانية واحدة كانت ألف حبة من حبات الطماطم المتعفنة قد استقرت بجسد رئيس الوزراء الفرنسى فى الجزائر، فعلى حد قول أحد الحراس المحيطين بـ«جى موليه» وقتها، وقد نُشر ذلك فى صحف فرنسية: «لقد حملنا رئيس الوزراء فاقداً الوعى من شدة الحصار حوله وهجوم الناس عليه».. وعندما أفاق «موليه» كان أول شىء فعله هو أن اتصل بفرنسا وأصدر قراراً بإلغاء قراره بتعيين الجنرال «كاترو» حاكماً عاماً للجزائر، ثم عين بدلاً منه الجنرال «لاكوست» حاكماً عاماً مقاتلاً يتلقى أوامره من مستعمرى الجزائر.
وكان أول ما طالب به «لاكوست» هو تجنيد 150 ألفاً من المجندين الاحتياطيين لحسم الحرب فى الجزائر، وكان عدد المقاتلين الفرنسيين وقت تولية «لاكوست» 250 ألف جندى ارتفع العدد إلى 400 ألف جندى، وحاول «لاكوست» بكل الأسلحة الجديدة وكل الأسلحة القديمة أن ينهى المعركة.
الأسلحة الجديدة أسلحة حلف الأطلنطى، التى صنعت فى المنتصف الثانى من القرن العشرين، والأسلحة القديمة أسلحة السجون يلقى فيها 40 ألف سجين مثلاً وليس حصراً.. بعضهم ينفخون حتى تنفجر بطونهم، هذه الفضيحة انتشرت سريعاً فى صحف باريس لكن الأسلحة كلها لم تجد شيئاً. لم تكن فرنسا تملك الشجاعة لتحمل مسئولية هزائمها، وهكذا راحت تبحث عن مسئول تلقى عليه العبء وتشير إليه بالاتهام، وجدت فرنسا العذر كله فى مصر التى تدعو للقومية العربية وتساعد الأحرار العرب وبدأت أصوات تطالب بضربة فى قلب القومية العربية فى القاهرة، وقالها موريس بارجيس، وزير الحربية فى حكومة «موليه»، صراحة: «إذا نجحنا فى مصر، فمعنى ذلك أننا نجحنا فى الجزائر».
موقف إسرائيل:
ثم تبقى إسرائيل، أصغر الفرسان لكن أسودهم قلباً وأكثرهم خبثاً ومكراً. ماذا كانت تريد إسرائيل من وراء مغامرة السويس؟ كانت فرصة العمر لها، كانت سياسة «بن جوريون» فرض السلام بقوة السلاح، ولم يكن السلام هو الذى يحاول فى الحقيقة أن يفرضه وإنما الاستسلام، إن السلام لا يفرض.
ومعنى فرض السلام هو الحرب لإجبار الطرف الآخر على الاستسلام، ولا غرض للسلام إلا هذا المعنى. إسرائيل لا تريد حالة الهدنة، إنها تريد الصلح مع العرب بالمفاوضات حول مائدة أو إجبار العرب على الصلح بعد معركة، معركة تحقق إسرائيل فيها النصر.
نُشر فى مجلة آخر ساعة بتاريخ 27 أبريل 1957، الموافق 27 رمضان 1376