تفكيك صكوك التحرش

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

نقول كمان، التحرش بالكائنات الأنثوية موجود منذ قرون، وهو ليس سمة نختص نحن بها دون بقية خلق الله، لكن بقية خلق الله -باستثناءات قليلة نبقى على رأسها- مضت قدماً فى مسار التطور الإنسانى والحضارى، فاكتشفت أن الكائنات الأنثوية ليست مجرد كائنات للمتعة وإثارة الشهوة ووسيلة لإثبات الرجولة المفتقَدة أو المنتقَصة أو المنتهية، ولكن تحمل فى داخل جماجمها عقولاً قادرة على التفكير والإنجاز. وبنظرة سريعة إلى الأمم الأخرى نجد أن بينها من اكتشف فى مراحل متأخرة من العصور الوسطى أن النساء يمكنهن القيام بأدوار أخرى غير الأمومة والفلاحة والزواج، ولم يكن للمرأة حق تقرير المصير سواء بالزواج من عدمه، أو الإنجاب، أو عدد مرّاته. وهناك من الأمم من كان يعانى من تعرض نسائه وفتياته وطفلاته للتحرش الجنسى بشكل يمثل ظاهرة متفشية، فتم سنّ قوانين وتفعيل عقوبات وتطبيقها بكل صرامة، فلم تعد الإناث يشعرن بأنهن مهددات طيلة حياتهن. وانطلقت أمم ثالثة فى طريقها فعبرت مرحلة «هل المرأة إنسان؟» منذ عقود طويلة دون رجعة، ولم يعد وجود رئيسة دولة أو وزيرة دفاع أو مديرة مؤسسات تمويل أممية كبرى يثير غضب الرجال ويشعرهم بالدونية أو يعتبرون أنهم يعيشون فى كفر ومعصية ولعنات تحل عليهم أينما ذهبوا. بل واقع الحال ولغة الأرقام تؤكد أنهم يعيشون فى رفاه وتحضر وعلم نافع ننتفع نحن به.

ونحن أمة فى مكان آخر تماماً، فقد كانت نساؤنا يمضين فى طريق التطور الإنسانى الذى يعتبرهن كائنات آدمية وليس ماكينات جنسية حتى سبعينات القرن الماضى. وحدث ما حدث من تخلٍّ مصرى جماعى عن ثقافتنا وهويتنا وكياننا المصرى الأصيل لتحل محله ثقافات وهويات أخرى، ولأنها ليست نابعة من أرضنا أو تاريخنا أو تركيبتنا، فقد صنعنا منها نسخة مشوهة من الهوية، لا هى مصرية ولا دينية ولا عربية، بل هى هجين ماسخ بائس لا طعم له أو لون، فقط رائحة تلاعب سياسى بنا وتجاهل تام للخراب الفكرى والدمار الثقافى الذى ضرب المجتمع كله مع التركيز على إناثه لأنهن دائماً الحلقة الأضعف.

الحلقة الأضعف التى نظل نصدع الرؤوس ونستهلك العقول بإكليشيهات منزوعة الدسم مثل «المرأة نصف المجتمع» و«هى الأم والأخت والزوجة والحفيدة» إلى آخر المنظومة المستهلكة هى نفسها المستباحة من ألفها إلى يائها بمباركة المجتمع المتدين بالفطرة. نعم، النسخة المستوردة التى لا تمت للدين -أى دين بصلة- التى اعتنقناها منذ نهاية سبعينات القرن الماضى طرحت المرأة المصرية أرضاً. والأدهى من ذلك أنها زينت لها هذا الطرح باعتباره تديناً وتقرباً إلى الله وعودة إلى الدين الحق.

هل الدين الحق يرضى بتحول ملابس بعينها إلى «ختم المرور» إلى الشارع، لكنه يترك «كلاب السكك» تنهش فى الأجساد، تارة لأن رجولة استثيرت، وأخرى لأن مشيتها أو ضحكتها أو نظرتها تشير إلى أنها امرأة مستباحة، وثالثة لأنها وُجدت فى مكان مظلم، ورابعة لأن «الشباب مش عارف يتجوز»، وخامسة لأن «مراته معكننة عليه»، وسادسة لأن «ملابسها هى السبب»، وسابعة لأن «إيه اللى نزّلها من بيتها» وقائمة المبررات التى اخترعها المجتمع المتدين بالفطرة وباركتها جهات عدة كان ينبغى أن تكون الحامى والضامن والمدافع، لكنها انضمت للقاعدة العريضة المتدينة بالفطرة. ولِم لا؟ وغالبيتنا الآن هم أبناء الخطاب الدينى والثقافى المتدين الذى هيمن وتوغل وتغوّل منذ السبعينات؟!

تخيلوا أن مصر أصبحت فى حاجة إلى من يخبرها بأن المرأة إنسان وليست شيطاناً؟! تخيلوا أن المصريين أصبحوا غير قادرين على تقبل معلومة فى الطب أو الهندسة أو الأكل أو المدرسة أو الشرب أو النوم أو الاستيقاظ أو السفر أو التفكير إلا إذا كانت حاصلة على صك دينى؟! تخيلوا أن هذا المجتمع الذى بات لا يخطو خطوة إلا بصك دينى هو نفسه المصنف بين رقم واحد وأربعة على مؤشرات أكثر الدول تحرشاً بالنساء فى الأرض؟!

إن التحرش بالإناث فى مصر له علاقة مباشرة بالخطاب الدينى المسكوت عنه، والحقيقة أن اللجوء لرجل الدين ليخبرنا بأن التحرش حرام شرعاً يضر أكثر مما يفيد، ويلحق الضرر بالدين ولا يقويه. صحيح أنه يُكسب رجل الدين قوة وشعبية وانتشاراً، لكنه يمعن فى إدخالنا أكثر وأكثر فى نفق الصكوك الدينية المغلق فى نهايته.

ومع كامل الاحترام لرجال الدين ونسائه، فإن المجتمع لا يحتاج فتوى تخبره بأن العمل ضرورة وأن النظافة حتمية وأن الضمير يجب أن يبقى متيقظاً وأن التعامل بين البشر ينبغى أن يكون آدمياً، وأن الإمساك بأجساد النساء واستباحتهن واعتبارهن كائنات دونية مكروه. نحتاج المزيد من تحكيم العقول وترجيح المنطق وتفكيك مسألة الصكوك.