ساكن "البيت الأبيض" يطرد الأسد من "عرينه"
السياسة الأمريكية لا تتوقف عند شخص، ولا تعرف العواطف، لغة المصالح هى اللغة الوحيدة التى تتحكم فى السياسة الأمريكية، وأياً كان ساكن البيت الأبيض فهو ينفذ سياسة مرسومة فى إطار نظام مؤسسى، ربما تختلف إدارة الملفات من رئيس لآخر، لكن الاختلافات لا تكون مؤثرة، والرئيس ترامب كانت اختلافاته واضحة، لأنها تعكس شخصيته المتهورة. ولأن ترامب كان مستأسداً ويتمسك بالرئاسة بثقة مطلقة، فقد كان دائم التشكيك فى نزاهة الانتخابات حتى قبل أن تبدأ! مشيراً إلى أنه لن يتخلى عن الحكم بسهولة، وأنه الرئيس المنتخب للمرة الثانية، وبالرغم من شراسة الانتخابات، وصمود الرئيس دونالد ترامب ضد منافسه جو بايدن وإصراره على الفوز، فإنه خسر المعركة الانتخابية، لكنه يعترف بالهزيمة، وصعد الأمر للقضاء، رغم أن خسارته لم تكن مهينة، بل كانت خسارة يفتخر بها. غير أن العامل الحاسم فى هزيمته أمام بايدن كان سياسته المتهورة فى التعامل مع «كوفيد-19»، فقد أدى عناده وتخبطه فى إدارة أزمة وباء كورونا إلى معدلات إصابة ووفاة كارثية، وصلت إلى 120 ألف إصابة يومياً فى الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذى كان أكثر تأثيراً فى مزاج الناخب الأمريكى، وربما بدرجة أكثر حدة من الإجراءات المتشددة التى اتخذها ترامب ضد الأقليات العرقية والدينية، وهو ما دفع الأقليات ذات الأصول الأفريقية إلى التصويت بالأغلبية الكاسحة لصالح بايدن، الذى حصد أكثر من 75% من أصوات المسلمين الأمريكيين أيضاً، لأنه وعد بإلغاء حظر دخول القادمين من بعض الدول الإسلامية.
ترامب لُقب بالأحمق بسبب سوء إدارته للملفات الداخلية الساخنة، وعلى رأسها الأقليات، وخارجياً بسبب استعدائه لدول الجوار الحدودية كالمكسيك بسبب الهجرة غير الشرعية، ومنع الهجرة لأمريكا خصوصاً من الأقليات العرقية، ورفع درجة التعالى مع أوروبا، وصعد الحرب التجارية ضد الصين بسبب كورونا، ولم يكن محنكاً فى إدارته لملفات الشرق الأوسط وبالذات ما يتعلق بالحقوق الفلسطينية، فهو أول رئيس أمريكى يجرؤ على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل فى سابقة من نوعها فى تاريخ الرؤساء الأمريكيين، تصريحاته دائماً ما كان يشوبها التسرع والرعونة وفى أوقات كثيرة عدم الدقة والجهل فى كثير من القضايا المحورية، لذا كثيراً ما تراجع عنها، فكان رجل أعمال بدرجة رئيس! ما جعله مثاراً للسخرية فى وسائل الإعلام الأمريكية المناهضة لسياساته، وشابت فترة حكمه قفزات من التخبط وعدم الاستقرار السياسى عملاً بقاعدة «خالِف تُعرَف».
لسنا فى مقارنة بين بايدن وترامب فكلاهما ينفذ سياسة واحدة، بفروقات غير جوهرية، ولن يكون بايدن أفضل حالاً من ترامب إلا فيما يتعلق بطريقة إدارته للأزمات، سيكون أمام بايدن أجندة طويلة ومعقدة، فيها بضع مهام رئيسية داخل الولايات المتحدة، تبدأ بالقضاء على كورونا، مروراً باستعادة «أوباما كير» نظام أوباما للتأمين الصحى، وتنشيط الاقتصاد، وتعديل الضرائب والعمل على منع تفاقم الانقسام العرقى داخل الولايات المتحدة، خصوصاً بعد نشوء الحركات المضادة للتمييز العرقى، مثل حركة «حياة السود مهمة»، أما على الصعيد الخارجى، فمن المتوقع أن يسعى بايدن لإعادة نسج علاقات أمريكا الدولية بطريقة مختلفة عن ترامب وتغييرها بالتدريج، كى تصبح أمريكا أكثر توافقاً مع حلفائها وشركائها الاستراتيجيين خاصة الأوروبية، وسيبادر إلى استعادة أمريكا لمكانتها فى المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية التى اصطدم معها ترامب بقوة بسبب جائحة كورونا، واتفاقية باريس للمناخ، واليونيسكو، وربما يسعى بايدن ضمن سياسته الخارجية إلى إعادة المفاوضات مع إيران ضمن إطار (5+1) تمهيداً لعودة أمريكا إلى الاتفاق النووى، وتصحيح مسار العلاقات المتدهورة مع الصين والموازنة بينها وبين روسيا، ويرى بايدن أن الدور الروسى العسكرى أخطر على الولايات المتحدة من التوسع الاقتصادى الصينى وهو عكس ما كان يعتقده ترامب، وفيما يتعلق بالشرق الأوسط فمن الصعب أن يجرؤ على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لذا ستبقى السفارة الأمريكية فى القدس، لكنه قد يعيد فتح قنصلية أمريكية فى القدس الشرقية بحسب تأكيدات بعض المصادر الصحفية المقربة منه، ويقال إن بايدن سيحاول أن يؤسس سياسة فيها بعض التوازن بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، لكن بما لا شك فيه أن صفقة القرن قد انتهت ومشروع كوشنر للسلام قد طُوِىَ إلى غير رجعة، وربما يعيد بايدن تنشيط العلاقات الأمريكية مع الإسلام السياسى، ومن المبالغة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستتدخل بصورة مباشرة فى محاولة لإحداث تغييرات جوهرية فى خارطة النظم السياسية فى المنطقة العربية، لكنها ستركز على قضايا حقوق الإنسان، وقضايا تمويل الإرهاب وحرب اليمن. وتظل تلك التوقعات محاطة بالشكوك حتى تتضح الخطوط الرئيسية فى سياسة بايدن الخارجية.