لا عبودية فى الإسلام

من بين المآخذ التى يوجهها المستشرقون للإسلام أنه سمح بالعبودية وأيّدها ووافق عليها، بل ووضع القواعد والقوانين المنظِّمة لها، وقد أصبحت التهمة من المسلَّمات لدى العديد من الباحثين والعلماء. والسبب فى ذلك هو محاولة الأغلبية من فقهاء المسلمين الدفاع عن نظام الرق نفسه، ومحاولة البحث عن وجه إنسانى له، لاعتقادهم أن الإسلام أجاز الرق والاستعباد. والحقيقة هى أن الإسلام يرفض العبودية والرق على نحو ما سنتبين من هذا المقال.

تاريخياً عندما بعث الله سبحانه وتعالى نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، كان زمن البعث هو زمن العبودية، وكانت الجزيرة العربية موطن الدين الجديد تعتمد نظام العبودية. كان المجتمع ينقسم إلى أحرار وموالٍ وعبيد. الأحرار هم سادة الأرض وملاكها، والموالى هم الأُجَراء الذين تركوا أوطانهم وانتقلوا لأوطان جديدة لضمان أمنهم بجوارهم لأحد الأسياد الذى يوالونه مقابل الحصول على حمايته لقاء أجر معلوم أو خدمة يُتفق عليها. أما الطبقة الثالثة فهى طبقة العبيد المملوكين للأسياد الأحرار ملكية رقبة، ولهم حق التصرف فيهم بكل الطرق المشروعة كالبيع والهبة والإجارة والإعارة، ولا يكون للعبيد أهلية أداء بعيداً عن أسيادهم والذين فى المقابل ينفقون عليهم، ويضمنون لهم الكساء والمأكل والمأوى والحد الأدنى من متطلبات الحياة الضرورية.

بالتالى إذا حرَّم الإسلام العبودية وأجبر الأسياد على تحرير العبيد دفعة واحدة، لن يستطيع المجتمع تحمُّل الآثار السلبية المترتبة على هذا القرار، حيث سيجد قطاع كبير يصل إلى ثلث السكان نفسه بلا مأوى أو مأكل أو دخل يضمن له الحد الأدنى للمعيشة. الباحث فى القرآن لن يجد فى سوره المائة وثلاث عشرة، وفى كلماته من الدفة إلى الدفة ولا آية واحدة تشرع أو تقنن لمصدر واحد من مصادر العبودية، والتى انحصرت آنذاك فى مصدرين رئيسيين لا ثالث لهما: العدوان والإغارة على الآمنين لقتل المحاربين منهم وسبى المتبقى من رجال ونساء وأطفال بعد إعمال السيف، أو الانتصار فى الحروب التى تقع بين المتخاصمين والمتنازعين من الدول والقبائل كبرت أو صغرت.

فأما عن المصدر الأول للعبودية وهو العدوان فقد حرّمه الله سبحانه وتعالى فى القرآن فى أكثر من موضع، فقال سبحانه وتعالى: (وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، ويقول: (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)، ويقول: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، إذاً، بالنهى عن العدوان وتحريمه فقد تم غلق الباب الأول من مصادر العبودية، فلا قتال على من لم يعتدِ علينا.

والمصدر الثانى، وهو الانتصار فى القتال وأخذ الأسرى، فقد أغلق سبحانه وتعالى هذا الباب أيضاً بقوله: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَناً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)، وهنا جعل الله التعامل مع الأسرى بين أمرين لا ثالث لهما، الأمر الأول هو المنّ على الأسير بإطلاق سراحه بعد أن تضع الحرب أوزارها، والثانى أن يعرضوا على الأسرى أن يفدوا أنفسهم بالمال أو العمل، وجعل المنّ مسبقاً على الفداء لما فيه من مكارم أخلاق ورحمة وإظهار لسماحة الدين ونبل القضية التى يمثلها الإسلام.

سيقول قائل: ولكن السلف الأوائل سبوا واستعبدوا، وأقول فعلوا ذلك وفقاً لأبجديات عصرهم وليس اتباعاً لتعاليم دينهم.

أما الإسلام بعدما أوقف مصادر العبودية وجفف منابعها، فقد فتح أبواب تحرير العبيد لكى يتم عتقهم تباعاً فلا يؤثر ذلك على المجتمع، فجعل عقوبة القتل الخطأ فى حالات ثلاث تحرير رقبة مؤمنة فقال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)، وجعل عقوبة الحنث فى اليمين تحرير رقبة فقال: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وجعل عقوبة من يظاهر زوجته تحرير رقبة فقال: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

إن وقف المصادر مع فتح أبواب تحرير العبيد سياسة ثابتة للإسلام لتصفية طبقة العبيد دون تدمير المجتمع، ولا يُسأل الإسلام عن أفعال المسلمين إذا لم تكن متوافقة مع أحكامه، أو إذا كانت بناءً على فكر مغلوط عن الإسلام والقرآن.