فيلم «بيت من لحم».. أسئلة عن المرأة والرجل والتواطؤ بالصمت
فيلم قديم يتناول قصة قصيرة قديمة تعالج أقدم قضايا الحضارة الإنسانية: الجسد، الشهوة وصمت الخزى!
لكنى فى كل مرة أشاهد هذا الفيلم القصير، «بيت من لحم»، أو «الخاتم» لمخرجه أشرف سمير (إنتاج سوفيتى مصرى لسنة 1991) أعيد تأمل الحكاية من أولها.
فالفيلم يعيد صياغة القصة الشهيرة «بيت من لحم» ليوسف إدريس والتى تحكى حكاية أرملة وبناتها الثلاث مع المقرئ (الفقى) الكفيف الفقير ذى الصوت الشجى الذى دخل حياتهن على حين غفلة من الرغبة والصمت ليملأ بيتهن الصغير الصامت صوتاً وغناء وضحكاً واشتهاء لا ينتهى للحب والحياة. يعيد الفيلم صياغة الحكاية بأجواء ثقيلة وخلفية صوتية متأرجحة بين الصمت وبين أصوات مآذن القاهرة القديمة مع صورة كابية الألوان ومحيط بصرى كئيب يشى بقدر لا بأس به من الفقر والقهر.
أُمٌّ يموت عنها زوجها المسن، تترمل وهى بعدُ شابة، تفكر ككل أم أرملة مصرية أن انكسارها على بناتها هو المكتوب، لكن الأقدار ترسل لها ولبناتها برجل كفيف، كان هو، بحسب سيناريو الفيلم المختلف اختلافاً طفيفاً عن القصة، من قرأ تلاوة من القرآن على الزوج الراحل.
الأم المترملة حديثاً تجلس واجمة صامتة فى عزاء الزوج بينما يتلو الفقى الكفيف آيات القرآن ترحماً، فتذكرها إحدى النسوة المعزيات بأن زوجها لا يستحق الحزن! فالرجل كان يُعنفها وكان فقيراً مريضاً قعيداً يزيد أعباء الحياة عليها أطناناً! ففيم الحزن إذاً؟! وكأن الأم فوجئت بأنها يمكن أن لها أن تهدأ قليلاً وتطوى ذكراه فى سلام.. كأنها فطنت لتوها فقط إلى أنها لم تكن سعيدة يوماً مع ذاك الزوج التعس.
تمر الأيام وئيدة تصارع المرأة وبناتها الفقر ومطالبات صاحبة السكن المستمرة بأجرة المكان المتراكمة، ثم يأتى اليوم الذى تسوق فيه النسوة للمرأة خبر العريس.. هو ذاته المقرئ الكفيف الفقير يبحث عن عروس.. فلم لا تكون إحدى اليتيمات الفقيرات فائرات الأجساد متواضعات الجمال هى العروس المنتقاة؟
ولأن الزواج سُترة ولأنه «ضل راجل ولا ضل حيطة»، ولأن بيت النساء لا يدخله الرجال إلا طامعين، ولأن الرجال «طُعم الرجال»، فالمقرئ الكفيف الفقير فرصة ممتازة بمعايير النساء وقياساتهن المتراكبة والمعقدة دوماً.
وكان أن رضيت به الأم زوجاً لهذه الاعتبارات، وهنا نرى الممثلة التى تقوم بدور الأم فى الفيلم القصير، وقد حلّت شعرها للمرة الأولى وبدت أكثر رونقاً وأقل كآبة من صورتها الأولى المتلفحة بالسواد والحزن فى المشاهد الأولى للفيلم.
تجلس الأم ذات الشعر المنحل إلى جوار زوجها فى الفراش خجلانة مترددة تتأمله مستغربة وهو يحكى عن أبيه وأمه وطفولته وكيف داهم المرض عينيه وهو بعد طفل صغير وكيف أن مدينة الإسكندرية كانت آخر مدينة رآها بعينيه قبل أن يكف بصره.
والأم منصتة، والبنات يتسمّعن، ويحاولن استعادة الصور المموهة فى ذاكرتهن لمدينة الإسكندرية، حيث الطفولة اللاهية التى ما عادت طفولة ولا لاهية. هذا الرجل الكفيف جاء من العالم الخارجى ليكسر شيئاً من الصمت النسائى الواجم المترقب لرائحة الذكورة.
ثم جاء دور حكاية الخاتم ذى الفص الذى ورثه الرجل عن أمه، والذى كان هدية زواجه من أم البنات. الخاتم الذى سيكون أداة تواطؤ الجميع على أن يُشبع الرجل الوحيد المتاح «فى الكون» أجساد النساء الثلاث.. فى قصة يوسف إدريس، كان الرجل الكفيف متواطئاً بدوره، يعرف أن النسوة الأربع يتبادلن الخاتم بين أصابعهن كى يظفرن جميعاً بذات الشبع الجسدى بعد أن يئسن بفقرهن وقبحهن من الزواج. وبينما يتواطأ الزوج فى قصة إدريس متعللاً بعماه رامياً الذنب والخزى على المبصرين الأشرار الذين ينكرون يقين أبصارهم، نجد الرجل فى فيلم أشرف سمير الرجل ضحية بالكامل، حسن النية، يظن أن النساء الأربع هن نفس الشريكة لكن تعتريها تغيرات مزاجية وجسدية طارئة غير مفهومة له بالكامل! فى فيلم أشرف سمير، يقف الرجل رمزاً للسذاجة العمياء وللاستغلال الجسدى ولشبق نسوة متواطئات عليه حتى تكشف له صغراهن الحقيقة مرددة له أنهن جميعاً يكرهنه، وأنه لا يعدو كونه أداة متعة فى أيديهن! فى تلك اللحظة يلعن عماه صامتاً بأن يضرب عينيه بكفيه مراراً ثم يقرر الفرار بجسده وروحه من هذا المكان الدنس بأن يفتح باباً للخروج ومن وراء الباب يطير الحمام ويتردد صوت الأذان من إحدى المآذن القاهرية العتيقة.
لا أدرى حقيقة لماذا أنصف أشرف سمير الرجل فى الفيلم قاصراً الدنس على نساء البيت أو على البيت ذى النساء، كما لا أفهم لماذا تعمّد الدفع بممثلات حسناوات إلى الشاشة فى حين أن قصة إدريس قدمتهن كدميمات ذوات أجساد غير شهية وكأن المخرج لم يعطهن حتى الفرصة للإفلات من العار بحجة الدمامة وفقر الفرص المرتبط بالقُبح.
أعتقد أننا إزاء معادلة متكررة (غير واعية فى أغلب الأحيان، وواعية تماماً فى كثير من الأحيان) من تلك التى تربط بين الشبقية والنساء، وبين الجمال والإغواء المترخص، كما أن تلك المعادلة أبت أن تترك للمقرئ ذى الجبة والقفطان مساحة ليكون خاطئاً أو دنساً، وكأنما أراد المخرج لصورة رجل الدين صاحب التلاوات العذبة أن يظل محتفظاً بنقائه ونظافة يده وقلبه، مفضلاً له أن يكون كفيفاً خديعاً ساذجاً على أن يكون متواطئاً بالصمت فى لعبة الخاتم الدنسة.
ما علينا! الفيلم فى نهاية المطاف هو آخر ملامح التعاون المصرى السوفيتى قبل انهيار الاتحاد، ليبدأ بذلك عهد جديد تُساق فيه المرأة المصرية من خانة الذكورية باسم التقاليد والموروث، إلى خانة الذكورية الإسلاموية!
وفى كل الأحوال، تظل قصة يوسف إدريس صادمة (خاصة أنها رأت النور قبل أن يتبلد الحس المصرى بحكايات زنا المحارم المتكررة فى أيامنا هذه!) ومثيرة للتساؤلات عن الخطيئة وعن الأجساد الجائعة وعن تأثير الجمال الأنثوى على الرجال، وفداحة القبح فى مجتمعنا.. عن ثقافة الفقر وأحلام الفتيات المعلقة حين تتهشم على صلابة الاحتياج، وعن الزوجة الأم، وعما تقبله على نفسها وما لا تقبله، وما تزج ببناتها إليه وما لا تقدر حتى على أن تفكر فيه.. عن الرجال حين يُخدعون وحين يقررون التواطؤ بالصمت وحين يلقون بدم بارد بالخزى واللوم على النساء.