الإعلام الذى يتغير
- د. ياسر عبدالعزيز
- الإعلام
- السوشيال ميديا
- الإعلانات
- د. ياسر عبدالعزيز
- الإعلام
- السوشيال ميديا
- الإعلانات
يتفق كثيرون على أن «كورونا» غيّر المشهد العالمى الراهن تغييراً جذرياً، لكن البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يرى أن هذا الفيروس القاسى المخاتل سيُحدث أيضاً تغيرات مستقبلية مستديمة فى عديد المجالات والأنشطة.
يعتقد البعض إذن أن تأثيرات «كورونا» فى الأنشطة المجتمعية المختلفة ستمتد إلى ما بعد إيجاد حلول ناجعة للتعامل مع آثاره أو تراجع فاعليته، بينما يبرز الخلاف حول ما إذا كانت تلك التأثيرات ستكون متوسطة أم طويلة المدى، كما يناقش آخرون ما إذا كانت قادرة على خلق نماذج أعمال جديدة.
فى قطاع الإعلام، يبدو أن تأثيرات «كورونا» شديدة الوضوح، إذ تغير شكل الصناعة وتبدلت بعض أهم آليات عملها، وراحت الأنشطة الإعلامية تنتظم ضمن نماذج ودورات عمل جديدة، كما انقلبت الأوضاع الاقتصادية، فى ظل التراجع القسرى والمطرد فى المداخيل.
عند حساب التغيرات التى أحدثها «كورونا» فى قطاع الإعلام من زاوية مدى قدرتها على الاستدامة، تبرز فى المقدمة تلك الضغوط التى تعمقت على وسائل الإعلام التقليدية، بسبب تراجع الأنشطة الاقتصادية، وطبيعة عمل تلك الوسائل التى تقوم فى الأساس على التغطيات الميدانية، إضافة إلى هشاشة الأوضاع الاقتصادية لبعض المؤسسات الإعلامية، بشكل لا يمكّنها من الصمود أمام الخسائر، جراء عدم امتلاكها احتياطيات كافية لمواجهة الأزمات الضخمة الطارئة.
وبموازاة ذلك، لا يبدو أن الشركات العملاقة التى تمتلك مواقع التواصل الاجتماعى تأثرت بشكل مؤذٍ، بل على العكس، فقد أظهرت تلك الشركات القدرة على موازنة الضغوط الراهنة، بسبب ما تمتلكه من احتياطيات مالية ضخمة، ورصيد أرباح كبير، وميزانيات مكّنتها من امتصاص الآثار السلبية للتراجع الاقتصادى.
لقد ظهر أنموذج أعمال جديد فى صناعة الإعلام بموازاة التجاوب مع مقتضيات مواجهة «كورونا»، وهو أنموذج يتأسس على عدة ركائز، أهمها تغيير نمط الإنتاج، وتقليل المخالطة والتغطيات الميدانية، وتجهيز المواد الإعلامية وبثها من البيوت، واستضافة الضيوف عبر تطبيقات التواصل الاجتماعى، وتفادى الأنشطة الإعلامية والفنية التى تعتمد على وجود الجمهور.
تصب تلك التغيرات بشكل واضح فى مصلحة وسائط التواصل الاجتماعى التى تسجل نجاحات ضخمة فى استخدام هذا الأنموذج الجديد، وتحرم وسائل الإعلام التقليدية من ميدان مميز ومهم لطالما كانت تحقق من خلاله نفاذاً ورواجاً، وتعتمد عليه فى توليد العوائد.
فى تلك الأثناء، يزيد الطلب بوضوح على المواد الإخبارية، إذ تتعلق أنظار الجمهور بالأخبار والتطورات التى ترد فى صورة «خبر عاجل»، لأن «كورونا» لا يترك برهة لالتقاط الأنفاس، وبسبب اتساع رقعة فعله لتشمل معظم دول العالم، وزيادة عدد الفاعلين المرتبطين بملف مواجهته وتطوراته، لا يترك هذا الفيروس قدراً مناسباً من المساحات لبث أشكال إعلامية تتناول موضوعات متنوعة.
تراجع الطلب على الرأى والتحليل بموازاة ارتفاع مطرد فى الطلب على الأخبار والتطورات العاجلة، فُحرمت وسائل الإعلام التقليدية من أحد مصادر تفردها وتفوقها، لصالح «السوشيال ميديا» الغارقة فى بث اللقطات والتعليقات اللاذعة والإفادات المقتضبة.
من بين أهم التأثيرات الجديدة، التى يمكن أن تستمر معنا على المديين المتوسط والطويل هذا التغير الذى يمكن أن نراه فى شكل المؤسسة الإعلامية، إذ تتصاعد قدرة الأفراد على بناء آليات عرض وتلقٍّ واسعة من خلال حسابات على «السوشيال ميديا»، فى مقابل تقلص قدرة المؤسسات التقليدية على الحفاظ على جمهورها.
سيكون بوسع الفرد إذن أن يطور مؤسسة إعلامية تحظى بنفاذ وقاعدة جمهور عريض ومتنوع من وراء شاشة هاتفه الذكى أو حاسوبه الشخصى، وهو سيكون قادراً على أن ينتج محتوى غير مكلف ويبثه ويحصد ملايين المشاهدات دون نفقات إنتاج ضخمة، كما سيكون بوسعه أيضاً أن يحصل على عوائد مجزية.
بحسب بيانات مركز بحوث الإعلانات العالمى، فإن الإنفاق الإعلانى على مستوى العالم فى طريقه لفقدان نحو 50 مليار دولار أمريكى، بحلول نهاية العام الجارى، وهى خسارة ضخمة ستخصم من قدرة وسائل الإعلام التقليدية على الصمود والتعافى، لكنها لن تلقى بالأعباء نفسها على وسائط التواصل الاجتماعى والشركات التى تقف خلفها.
ستتراجع مخصصات الإعلان عبر الصحف الورقية والفضائيات والإذاعات فى مقابل زيادة متوقعة فى عوائد «السوشيال ميديا» الإعلانية، إذ يفيد قطاع كبير من مسئولى التخطيط الإعلانى فى الشركات العالمية البارزة، أنهم ألغوا أو أجّلوا حملاتهم الإعلانية المقررة فى العام الجارى، تماشياً مع الظروف التى خلقتها الجائحة، لكن معظم هؤلاء أكدوا أنهم بصدد تطوير حملات إعلانية بديلة تماشياً مع الظروف التى خلقها الوباء.
أين ستذهب الحملات الإعلانية الجديدة؟ الإجابة واضحة، فهى ستذهب إلى هذا القطاع الذى يتحلى بقدرات أكبر فى مجالات الإتاحة، والسرعة، والرواج، وتخطى الحدود الجغرافية، وإمكانية تحديد المستهدفين، وتأطير الرسائل الإعلانية لتناسب احتياجاتهم المرصودة، وإدماجهم فى أنشطة التسويق عبر المزايا التفاعلية، وصولاً إلى إمكانية ممارسة عملية البيع.
تلك الفوائد مجتمعة ستقود مخططى الحملات الإعلانية إلى قطاع «السوشيال ميديا»، وبموازاة ذلك ستتزايد الضغوط على وسائل الإعلام التقليدية، وهو أمر سيمكن رصده بوضوح حينما نعرف أن مخصصات الدعاية عبر «إعلانات الطرق» تراجعت بنسب تراوحت ما بين 50% إلى 80% على مستوى العالم خلال شهرى أبريل ومايو الفائتين.
تدفع التدابير الاحترازية وتباطؤ عجلة الاقتصاد الجمهور إلى المكوث فى المنازل ومطالعة شاشات الهواتف، وفى ظل ذلك الوضع «الكورونى» تبرز تداعيات جائرة وانتقائية فى المجال الإعلامى، إذ ينتج الصحفيون الذين يعملون فى مؤسسات الإعلام التقليدية الأخبار والمواد الإعلامية، وتنفق تلك المؤسسات أموالاً ضخمة من أجل جمعها وتجهيزها وتوزيعها، بينما تأتى «السوشيال ميديا» لتسطو على ذلك الجهد، وتبثه على مدار الساعة، ويستهلكه الجمهور، ثم تجنى هى العوائد.
سيكون من المهم والضرورى أن تطور دول العالم آليات لدعم وسائل الإعلام التقليدية ومنحها القدرة على الصمود والتعافى والاستمرار، على أن يكون ذلك عبر مخصصات مالية أو قوانين ولوائح تضمن نصيباً عادلاً لها فى العوائد التى تلتهمها «السوشيال ميديا». ما سيتم إنفاقه فى هذا الإطار، سواء كان مالاً أو جهداً تنظيمياً، سيعود بمنافع مهمة، إذ إن العالم لا يزال بحاجة إلى وسائل الإعلام بشكلها التقليدى.