طمعا في النفط العربي.. هكذا بدأ التلون التركي تجاه القضية الفلسطينية

طمعا في النفط العربي.. هكذا بدأ التلون التركي تجاه القضية الفلسطينية
التلون والخداع هو العنوان المناسب لتوضيح الموقف التركي من القضية الفلسطينية، إذ لا يسعك غير الشعور بالحيرة، وأنت ترى القادة الأتراك وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان، يتحدثون بالدمع عن قضية فلسطين، بينما يتاجرون بأنفسهم مع إسرائيل، ويتعاونون معها عسكريا واستخباراتيا في السر والعلن، وفقا لما ذكره موقع "تركيا الآن".
لكن، هل ولدت تلك السياسة المتناقضة فقط إبان اللحظة التي وصل فيها الإسلاميون بزعامة أردوغان إلى رأس السلطة في تركيا (مارس 2003)، أم تُرى لها جذور تاريخية أبعد من ذلك؟! التقرير التالي يحاول الإجابة:
وأوضح "تركيا الآن": حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي، كانت تركيا واضحة في صداقتها مع إسرائيل وعدائها للعرب. ففي العام 1949، أصبحت الجمهورية التركية أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بالكيان الصهيوني الناشئ. وعقب فوز الحزب الديمقراطي بالانتخابات في تركيا، وفوز زعيمه عدنان مندريس بمنصب رئيس الوزراء، أظهر الأتراك تماهيا كاملا مع إسرائيل. فرفض مندريس إغلاق قناة السويس في وجه الملاحة الإسرائيلية (1951)، ثم أبدى موافقته الأدبية على العدوان الثلاثي على مصر ( 1956)، دون المشاركة فيه عسكريا أو لوجستيا. وأخيرا كان العام 1958 شاهدا على اتفاقات شفاهية واسعة بين رئيس الوزراء التركي ونظيره الإسرائيلي ديفيد بن جوريون، اشتملت على ضرورة التعاون العسكري بين أنقرة وتل أبيب ضد القومية العربية. وعرفت هذه الاتفاقات باسم الميثاق الشبح نظرا لطابعها السري.
وانتهت تلك المرحلة من العلاقات التركية الإسرائيلية مع نجاح الانقلاب العسكري الذي وقع في أنقرة (27 مايو 1960)، في الإطاحة بحكومة عدنان مندريس، بل وتنفيذ حكم الإعدام شنقا فيه (17 سبتمبر 1961).
وأوضح الموقع، أنه خلال السنوات التالية من حقبة الستينيات، تداخلت عدة عوامل وفرضت على القادة الأتراك اتخاذ مواقف أكثر توازنا تجاه العرب وإسرائيل. أهمها الفقر الحاد في تركيا على مستوى توافر الطاقة (نفط، غاز طبيعي)، ما فرض عليها تحسين علاقاتها بدول الخليج النفطية. وكذلك صعود تيار الإسلام السياسي في تركيا، مع ظهور حركة ميللي غوروش (أي الرؤية الوطنية) في العام 1969، والتي أنشأها القيادي الإسلامي التركي، نجم الدين أربكان، ومطالباته بالاصطفاف إلى جانب العرب ضد الكيان الصهيوني.
وأدت تلك الأسباب إلى اعتناق تركيا مذهب التلون لأول مرة تجاه القضية الفلسطينية، حيث أصبح إظهارها التعاطف مع تلك القضية، مع استمرار العمل السري مع إسرائيل، وسيلة فعالة لضمان تدفقات النفط العربي على البلاد، كما أصبح طريقة لكسب الإسلاميين الأتراك الذين أصبحوا يسيطروا على الأفق السياسي في تركيا، وخاصة في حواشي المدن، والمناطق الريفية في الأناضول.
وأوضح "تركيا الآن": تجلت سياسة التلون تلك في أعقاب حرب الأيام الستة "يونيو من العام 1967"، والتي تلقى فيها العرب خسارة عسكرية قاسية أمام إسرائيل، حيث رفضت تركيا استخدام قواعدها من قبل الناتو لدعم إسرائيل. كما تماهى الخطاب الرسمي في أنقرة مع التعاطف الشعبي التركي تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين.
ومع الأزمة الطاحنة التي عاشتها تركيا على صعيد الطاقة في السبعينيات، وجد الأتراك أنفسهم في حاجة إلى التقرب أكثر من الدول العربية النفطية. فرفضوا من جديد استخدام قواعدهم الجوية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لتقديم المساعدة العسكرية لإسرائيل أثناء حرب التحرير (أكتوبر من العام 1973)، وهو القرار الذي ضمن لتركيا المكافآت الخليجية السخية.
وقد بدا أن لعبة تركيا من أجل المال النفطي مجزية ومربحة، وبالتالي فإنها واصلت قراراتها في سنوات ما بعد حرب أكتوبر في سبيل المزيد من المكافآت. ففي العام 1975 صوتت تركيا مع العرب داخل أروقة الأمانة العامة للأمم المتحدة في صالح مشروع طلب عربي باعتبار الصهيونية فكرة معادلة للعنصرية.
وفي يونيو من نفس العام اعترفت تركيا بمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم سمحت لزعيم الحركة "ياسر عرفات" بفتح مكتب تمثيل دبلوماسي للحركة في أنقرة خلال العام 1979.
وفي أعقاب الانقلاب العسكري الجديد في تركيا (12 سبتمبر 1980)، رفضت أنقرة الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل وخفضت من مستوى التمثيل الدبلوماسي مع الأخيرة. ومكافأة لها على ذلك، عاد وزير الخارجية التركي "إلتر توركمان" في ذلك الحين من عاصمة المملكة العربية السعودية الرياض، وفي يده شيك بمبلغ 250 مليون دولار لصالح الخزانة التركية.
ولكن التحولات الإقليمية التي بدأت منتصف الثمانينيات ما لبثت أن فرضت على تركيا العودة إلى العمل مع أحضان حليفتها التاريخية إسرائيل دون الحاجة إلى علاقات رسمية مفعلة بشكل كامل. ففي ظل ظهور حزب العمال الكردستاني (بككة)، ودعم النظام السوري لمقاتليه، لجأ الساسة الأتراك فورا إلى إسرائيل لطلب مشورتها حول كيفية التعاطي عسكريا مع الميليشيات الكردية خاصة مع تشابه أساليبهم في القتال والفصائل المسلحة الفلسطينية. ومن أجل تلك المهمة، عينت تركيا في أواخر العام 1986 "أكرم جوفيندرين" مندوبا دائما لها في تل أبيب ليكون حلقة الوصل بينها وبين حكومة أنقرة.
ومع بداية التسعينيات، أصبح في إمكان تركيا التخلي عن سياسة التلون تجاه قضية فلسطين، وذلك لأسباب جديدة ظهرت على ساحة الصراع العربي الإسرائيلي. ففي أكتوبر من العام 1991، قبل الفلسطينيون لأول مرة وضع السلاح جانبا والدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل في مؤتمر مدريد. وهو ما دفع الأتراك إلى إعادة علاقاتهم الطبيعية مع الصهاينة في أعقاب ذلك المؤتمر فورا وتبادل السفراء بين الجانبين، وقال الساسة في تركيا وقتها إنه لا يجب علينا أن نكون "عرب أكثر من العرب أنفسهم"، في إشارة إلى انفتاح الفلسطينيين أخيرا على التفاوض مع إسرائيل.
وأشار "تركيا الآن"، إلى أن إضافة إلى ذلك، فإن انخفاض حجم الصادرات التركية إلى العالم العربي من 47% من إجمالي صادراتها في العام 1984، إلى 12% فقط خلال العام 1994. إلى جانب ظهور الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى، والتي حصلت على استقلالها بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي العام 1990، كسوقا واعدة للمنتجات التركية، ومصدرا بديلا للنفط والغاز الطبيعي العربي، لعب أدوار حاسمة في عودة الأتراك إلى العمل العلاني مع الصهاينة دون الشعور بأي حرج. وابتداءا من التسعينيات، ستدخل تركيا مع إسرائيل في حقبة يطلق عليها الباحثون في التاريخ العلائقي بين البلدين اسم "شهر العسل" بسبب التعاون الهائل بينهما في جميع المجالات. وسوف يكون علينا الانتظار حتى وصول أردوغان إلى رأس السلطة في تركيا لتعود مسيرة التلون من جديد تجاه القضية الفلسطينية، نتيجة ظروف تاريخية مختلفة.