رسائل الأمهات من داخل دور المسنين: "ابنك على ما تربّيه"

كتب: سحر عزازى

رسائل الأمهات من داخل دور المسنين: "ابنك على ما تربّيه"

رسائل الأمهات من داخل دور المسنين: "ابنك على ما تربّيه"

عاشت سنوات عمرها تربى وتعلم، سهرت وتعبت حتى تخرج أبناؤها فى كليتى الطب والهندسة، ترقرقت عيناها بالدموع فرحاً، شعرت بأنها أكملت رسالتها، وحان الوقت لتستريح، خرج الأبناء إلى سوق العمل والزواج ولم يعودوا مرة أخرى لحضن الأم، التى ضحت من أجلهم، صاروا رجالاً فاقوها طولاً وعرضاً، لكنهم لم يكونوا بالنسبة لها السند الذى تتكئ عليه. فى دار مسنين استقر الحال بالسيدة السبعينية، لتجد من تتونس بهم فى المحطة الأخيرة من حياتها، وخوفاً من الموت وحيدة.

قصة أخرى تزيد فى قسوتها، قصة «أم وليد»، كما ينادونها فى إحدى دور المسنين، كانت تعيش فى شقة ابنها، استيقظت ذات يوم على توبيخ من زوجته تطالبها بالرحيل، تحكى مأساتها: «فى يوم صحيت لقيت شنطة هدومى قدام الباب وقالت لى لازم أمشى دلوقتى، طب أمشى أروح فين يا بنتى؟ قفلت الباب فى وشى ومكنش عندى أى ملجأ أروح له، فرحت دار مسنين، لقيت ستات كتير زيى ويمكن أصعب». تحكى «أم وليد» عن قسوة زوجة ابنها: «مرة كان نفسى آكل ملوخية وفراخ، دخلت المطبخ أعملهم وأفرّح أحفادى بأكلة حلوة، صحيت من النوم اتضايقت وقالت لى إنتى بتطبخى فى حلتى وحاجتى، من كتر زعلى كبيت الأكل فى الحوض وما دخلش جوفى».

لأيام طويلة طار النوم من عينيها، كانت تضع رأسها على المخدة، فتستعيد شريط ذكرياتها بالدموع، تتذكر حين كان ابنها طفلاً تدلعه وتغمره بالعطف والحنان، تضرب كفاً بكف على الابن الذى أصبح رجلاً مسلوب الإرادة أمام زوجته: «راح فين الحب ده كله، معقول يكون اتبدل لقسوة؟»، تسمعها «ماما عيشة» نزيلة مثلها، تأتى لتهون عليها وتقص عليها حكاياتها التى بدأت بطرد ابنتها لها، تعمل ابنتها مضيفة طيران وترفض أن تقيم والدتها معها، ليس هى فقط، بل ابنها أيضاً، الذى لم يكتفِ برفض إقامة والدته معه، بل كان يضربها، وما زال أثر الضرب واضحاً على جسدها، تكشف عنه كل فترة لتريه لنزيلة جديدة: «شفتى ابنى عمل فيا إيه؟».

قصص كثيرة مغلفة بجحود الأبناء تسكن خلف أسوار دور المسنين، حاول أصحابها معالجتها وتعويض الكبار عن قسوة وغياب الأبناء، نتذكر جزءاً من هذه القصص فى اليوم العالمى للتوعية بشأن إساءة معاملة المسنين، الذى يوافق اليوم 15 يونيو، الذى يتزامن أيضاً مع الرسالة الصوتية للدكتورة عبلة الكحلاوى، والتى أزعجت كل المصريين وكشفت عن جحود ونكران الأبناء لآبائهم. ذات يوم من أيام وباء كورونا، ظهر وباء اجتماعى آخر كشفت عنه رسالة صوتية عبر تطبيق الواتساب، تستغيث فيه «الكحلاوى» من انتشار فيروس كورونا بين نزلاء دار مسنين، ورفض الأبناء استلام ذويهم الذين لم يلتقطوا العدوى.

«اللى ما بيتصلش، بنتصل عليه إحنا عشان المسنين طول الوقت محتاجين لأولادهم»، تقولها لمياء جمال أخصائية اجتماعية بإحدى دور المسنات بالعجوزة، توضح «لمياء» أن الدار بها 10 سيدات جميعهن من عائلات كبيرة، وأبناؤهن أطباء وأصحاب مناصب عالية شغلتهم الحياة عن أمهاتهم اللاتى كن يعملن قبل المعاش فى وظائف مرموقة: «بعد ما البيت فضى عليهم وسؤال الأبناء قرروا ييجوا الدار عشان خايفين يموتوا لوحدهم، بيقولوا لى نفسنا نموت وسط ناس عشان نلاقى اللى يدفنا»، فقدت «لمياء» والديها وكلما ازدادت اشتياقاً لهما زادت معاملتها الطيبة للنزيلات ترعاهن قدر المستطاع تجلس معهن وتحكى لهن القصص الطريفة لتخفف عنهن لوعة الاشتياق وتمنعهن من التفكير فى الماضى ومقارنته بالحاضر الأليم: «واحدة فيهم أول ما بتشوفنى الصبح بتترمى فى حضنى أطبطب عليها تقول لى حضنك بيريحنى».

«ماما عيشة كانت بتموت ومحتاجة نقل دم وكلمنا بنتها مضيفة طيران وابنها مهندس رفضوا وقالوا أصل معندناش فلوس، مش كفاية فضحتنا وراحت تسكن فى دار، تكفلنا بعلاجها وأنقذنا حياتها»، تقولها بحزن شديد مديحة إبراهيم، مديرة دار مسنين بمنطقة الحلمية، مؤكدة أنها شاهدت مواقف جحود من الأبناء لا حصر لها تتلخص فى ضرب الأم وطردها بناء على رغبة زوجة الابن. تحاول «مديحة» تعويضهم عن غياب الأبناء والأحفاد من خلال اصطحاب أبناء بنتها للدار للجلوس معهم، لافتةً إلى أن هناك سيدة طردها ابنها، الذى يسكن فى الغردقة من أجل إرضاء زوجته: «عندها ولاد مبسوطين مادياً، لكن رفضوا ياخدوها، واحدة من بناتها عندها صالة جيم قالت مش فاضية ليها، ده غير إن بيجلنا أمهات نفسيتهم وحشة من كتر الضرب فيهم».

يرى الدكتور محمد هانى، استشارى العلاقات الأسرية والصحة النفسية، أن السبب فى جحود الأبناء فى كبر والديهم، أن الأب والأم ينشغلان فى شبابهما بجمع الأموال لتأمين مستقبل صغارهما ليكون المال سنداً لهما فى شيخوختهما، ليفاجآ بالعكس لأنهما لم يزرعا فى الابن القيم والأخلاق التى تجعله رحيماً بهما وقت حاجتهما له: «انتشر الجحود لما فقدنا كل مشاعر العطف والحنان».

يحكى قصة حقيقية مرت أمام عينيه لشاب توفيت أمه فى مكان يبعد عنه بساعتين، ورفض الذهاب لدفنها: «قال الموجود هناك يدفنها.. شايفين القسوة، بعض القلوب أصبحت متجردة من الإنسانية، مش مدرك إن ولاده هيعملوا معاه كده»، مستشهداً بالرسالة الصوتية للدكتورة عبلة الكحلاوى، التى جاءت تستغيث فيها: «هو فيه أكتر من إنه يكون فيه حالات مش مصابة وأولادهم رافضين ياخدوهم، هما هانوا عليهم من الأول لما رموهم فى دار مسنين، لازم أربى كويس، لأن التربية مش بس فلوس».


مواضيع متعلقة