"يا فرحة بيل جيتس واخواته"

الاقتصاد عصب السياسة. ولا تزيد السياسة على كونها أحد أشكال التعبير عن الأوضاع الاقتصادية. وثمة أفكار وتوجهات اقتصادية جديدة بدأت تطرح نفسها بقوة فى سياق جائحة كورونا، سواء على المستويات المحلية أو العالمية. على المستوى المحلى من المتوقع أن تتألق من جديد فكرة الاعتماد على الذات فى توفير الاحتياجات الأساسية للدولة. وعلى المستوى العولمى من المتوقع أن ينال «اقتصاد المعرفة» المزيد من الدفعات القوية إلى الأمام.

الاعتماد على الذات فى إنتاج الأساسيات لن يحكم فقط الدول النامية، بل ينسحب أيضاً على الدول المتقدمة.

فى ألمانيا على سبيل المثال، وهى واحدة من كبرى القلاع الصناعية فى العالم، واجهت الحكومة مشكلة فى توفير «الكمامات» مع انتشار فيروس كورونا، وتضاعف سعرها عدة مرات بسبب ارتفاع الطلب عليها.

ولعلك تعلم أن ألمانيا تصنع أعقد الماكينات التى تدخل فى صناعة الكمامات وتدفع بها إلى الصين، لأنها تحقق هامش ربح محدوداً، يتطلب الاعتماد على عمالة رخيصة لا توجد إلا فى الصين. الأمر اختلف بعد جائحة كورونا فقررت الحكومة الألمانية دعم صناعة الكمامات ليتم إنتاج الملايين منها كل أسبوع. وفى مصر أعلن الدكتور مصطفى مدبولى -منذ أسبوع- أنه تلقى تكليفات من الرئيس عبدالفتاح السيسى بالعمل على زيادة الرقعة المزروعة فى سيناء، خاصة فى منطقة وسط وشمال سيناء، لتأمين احتياجات المصريين. فكل دول العالم أصبحت مطالبة -قدر ما تستطيع- بتوفير ما تحتاجه من سلع غذائية بالاعتماد على نفسها. وبعض الدول التى كانت تعتمد على الصين فى استيراد بعض السلع الغذائية ستجد نفسها مضطرة للتوجه نحو الإنتاج الذاتى، خوفاً من عدوى حالية أو قادمة!.

التوجه نحو الاعتماد على الذات ليس مؤقتاً بانتهاء جائحة كورونا، فمن المحتمل أن يستمر بعدها، وثمة أحاديث عديدة ترددت على لسان خبراء تؤكد أن الفيروس يمكن أن يحور نفسه بعد سنتين ليضرب من جديد، وأن العالم يمكن أن يمكث سنين طويلة فى مواجهة «ألعاب الإنفلونزا». وعلينا ألا ننسى أن العالم واجه منذ أواخر التسعينات وأوائل الألفية الجديدة فيروس إنفلونزا الطيور (تسبب فى وفاة 400 شخص) وفيروس سارس (800 وفاة) ثم فيروس إنفلونزا الخنازير (18 ألف وفاة) ثم فيروس كورونا (أكثر من 150 ألف وفاة حتى اللحظة). نحن إذن أمام خطر متصاعد، وليس خطراً مؤقتاً بفترة زمنية ويمضى، وهو ما يفرض على العديد من الدول، خصوصاً الدول النامية، أن تبدأ خططاً طويلة المدى لإنتاج احتياجاتها الأساسية بالاعتماد على النفس، وإلا فسوف تضيع هذه الدول فى الرِّجْلين أمام أى خطر مستقبلى محتمل.

وظنى أن صعود فكرة الاعتماد على الذات فى إنتاج الاحتياجات الأساسية سيدعم على المستوى العولمى فكرة «اقتصاد المعرفة». وهو الاقتصاد الذى يوفر المعرفة الفنية (Know How) التى تعلم الأفراد والجماعات كيفية إنجاز منتج معين، ويعتمد على مفاهيم البرامج الكمبيوترية الجاهزة (مثل برامج التعليم عن بُعد والامتحان عن بعد وخلافه) وبرامج الذكاء الاصطناعى والمعلومات والاتصالات. ألعاب الإنفلونزا قد تدفع الاقتصاديات المحلية إلى المزيد من الاعتماد على الذات، أما على المستوى العالمى فسيدفع «اقتصاد المعرفة» خطوات جديدة إلى الأمام: «ويا فرحة بيل جيتس واخواته».