"غاية أم وسيلة؟".. الفارق بين رؤيتنا للامتحانات وموقف طه حسين منها

"غاية أم وسيلة؟".. الفارق بين رؤيتنا للامتحانات وموقف طه حسين منها
بعد إلغاء نظام الامتحانات فى أغلب صفوف التعليم، في المدارس والجامعات، والاكتفاء بالبحث كوسيلة لتقييم الطلاب، كإجراء احترازي اتخذته الحكومة للحد من انتشار فيروس كورونا، قوبل القرار بردود أفعال متباينة، تتراوح بين التفهم وتقبل البديل، وبين "ليتنا ما ذاكرنا وتعبنا"، لنكتشف أن البعض يتعامل مع مسألة الامتحان باعتباره غاية قصوى من عملية التعليم، فهل ذلك هو التعامل الأمثل مع موضوع الامتحان؟.
في كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1938، يضع الدكتور طه حسين، خطة للنهوض بالتعليم والثقافة في مصر، في إطار العمل على بناء الدولة المصرية آنذاك، ويناقش الكتاب عدد من القضايا المرتبطة بهوية مصر الحضارية، وهذا بخلاف القضايا المتعلقة بالثقافة والتعليم ومنها موضوع الامتحانات، والتي يرى أن التركيز على الامتحان كهدف أساسي من عملية التعليم أدى إلى فساد التعليم وبالتالي الأخلاق والسياسة.
ويوضح عميد الأدب العربي في الكتاب: "الأصل في الامتحان أنه وسيلة وأنه مقياس تعتمد عليه الدولة لتجيز للشباب أن ينتقل من طور إلى طور من أطوار التعليم، وهو مستعد لهذا الانتقال استعدادًا صحيحا أو مقاربًا، هذا هو الأصل، ولكن أخلاقنا التعليمية جرت على ما يناقض هذا أشد المناقضة، ففهمنا الامتحان على أنه غاية لا وسيلة، وأجرينا أمور التعليم كلها على هذا الفهم الخاطئ السخيف، وأذعنا ذلك في نفوس الصبية والشباب، وفي نفوس الأسر، حتى أصبح ذلك جزءًا من عقليتنا".
ويرصد حال الطلاب "فالصبي منذ يدخل المدرسة موجه إلى الامتحان أكثر مما هو موجه إلى العلم، مهيأ للامتحان أكثر مما هو مهيأ للحياة" متابعا: "استحالت المدرسة إلى مصنع بغيض يهيئ التلاميذ للامتحان ليس غير، وقد يجوز أن يجني التلاميذ من هذا المصنع شيئًا آخر غير الاستعداد للامتحان"
ويحذر عميد الأدب العربي من تصور الامتحان على هذا النحو، قائلا أنه "قلب للأوضاع، وجعل التعليم وسيلة بعد أن كان غاية، وجعل الامتحان غاية بعد أن كان وسيلة، وحسبك بهذا فسادا للتعليم، ولكن هذا لا يفسد التعليم وحده كما قلت، بل هو يفسد العقل والخلق أيضا"، موضحا: "ما رأيك في الصبي الذي ينشأ على اعتبار الوسائل غايات والغايات وسائل، فيفهم الأشياء فهما مقلوبًا، ويحكم عليها حكمًا معكوسا؟! أتظنه يستطيع أن يفهم أموره الدراسية هذا الفهم المقلوب ويحكم عليها هذا الحكم المعكوس، ثم يفهم أمور الحياة فهما صحيحا ويحكم عليها حكمًا مستقيما؟!
ويشير إلى عواقب التفكير المقلوب: "ومن هنا لا ينبغي أن ننكر ما نراه من عناية شبابنا بالتافه من الأمر، وإكبارهم للسخيف، وإعراضهم عن عظائم الأمور، بل عجزهم عن الشعور بعظائم الأمور والأشياء ذات الخطر، لا ينبغي أن ننكر ذلك؛ لأن هؤلاء الشباب ينشئُون على العناية بالامتحان وهو تافه، وعلى إكبار الشهادة وهي سخيفة، وعلى الإعراض عن العلم وهو لب الحياة وخلاصتها" لافتا إلى أن "وليس هذا كل ما في الامتحان من شر، فللامتحان آثار سيئة تصل إلى الأخلاق من طريق ٍ قريبة يسيرة جدا، أظهرها الغش الذي يأتي من حرص التلميذ على أن ينجح بأي حال من الأحوال."
ويضيف "وهناك شر آخر ليس أقل من هذا كله خطرا؛ لأنه يفسد رأي المعلم في نفسه وفي تلاميذه وفي الوزارة وفي التعليم قبل كل شيء، وهذا الشر يأتي من تصور وزارة المعارف للامتحان، ومن هذه العناية الهائلة التي تهبها له وتقفها عليه"
ويؤكد أن الامتحان شر لا بد منه: "فلنتخفف من هذا الشر ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ونجعله وسيلة لا غاية، ولنصطنع بعض الجراءة، ولنرد إلى المعلمين ما هم أهل له من الثقة، ولنقدر آراءهم في تلاميذهم كما نقدر الامتحان أو أكثر مما نقدرالامتحان، ومعنى ذلك أن نلغي امتحان النقل في مدارس التعليم العام إلا أن تقضي به الضرورة، والمدرسة وحدها هي التي تقرر هذه الضرورة.
ويشير طه حسين إلى هذا "نظام شائع في كثير من البلاد التي سبقتنا إلى التعليم الحديث، وهو النظام المقرر في فرنسا، وفي المدارس الفرنسية القائمة بمصر، ومن المحقق أننا نكون سعداء حقا يوم ينتج تعليمنا العام ما ينتجه التعليم العام في أوروبا وفي فرنسا خاصة.
ويوكل مهمة تقييم الطالب إلى المدرس قائلا: "إذا ائتمنت- أي الوزارة- المعلم على التلميذ فامنحه ما يلائم هذه الأمانة من الثقة، واطلب إليه أن يختبر تلاميذه في المادة التي يُدرسها لهم بين حين وحين مرة على الأقل كل ثلاثة أشهر، وأن يمنحهم درجات على الاختبار، فإذا كان آخر العام فلتراجع هذه الدرجات ليرى أيستحق التلميذ بحكمها أن ينتقل إلى الفرقة الأخرى أم لا يستحق.