المواجهة الروسية التركية حول إدلب السورية
منذ أن أعلن الاتفاق حول خفض التصعيد فى إدلب بين روسيا وتركيا فى 2018 كان واضحاً أن أنقرة لا تستهدف خفض التصعيد، أو تحييد التشكيلات الإرهابية التى تخضع لرعايتها الفائقة، أو العمل بشفافية مع الجانب الروسى، الذى كانت له أهداف أخرى، أبرزها أن تقوم تركيا بفك التشكيلات الإرهابية، ووضع ترتيبات جديدة لأمن الحدود السورية التركية تتوافق مع أهم الأهداف التركية المتمثلة فى منع قيام منطقة حكم ذاتى كردية فى الشمال السورى، والتمهيد لاحقاً لترتيبات تؤدى إلى استعادة الحكومة السورية سيادتها على إدلب وشمال حلب، التى ظلت حتى وقت قريب خاضعة لسيطرة جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام، وكلاهما تنظيمان إرهابيان وفق التصنيف الدولى.
ومع مرور الوقت تبين لموسكو أن الرئيس أردوغان يتلاعب بالاتفاق ويسعى إلى ترسيخ الوجود التركى فى الشمال السورى ووجود المنظمات الإرهابية العميلة له على حساب السيادة السورية. فى الآن نفسه كانت موسكو تسعى إلى مزيد من التقارب مع أنقرة، من خلال تفاهمات مرنة تسمح لتركيا بالتراجع عن أهدافها الخاصة بدعم الإرهابيين، وفى الآن نفسه تُزيد من عمق الخلافات بين أنقرة وواشنطن، وهو ما أدركته تركيا باعتباره فرصة للتملص من كل الوعود التى قدمها أردوغان إلى نظيره بوتين فى أكثر من لقاء مباشر بينهما.
فى الأشهر الثلاثة الماضية لم يكن أمام موسكو سوى إعادة ترتيب الأولويات لتحييد تراجعات أنقرة عن كل التفاهمات السابقة، تبلورت الأولويات فى مزيد من الدعم والتنسيق مع الجيش السورى النظامى لمد سيطرته على المناطق التى ظلت خاضعة لنفوذ الجماعات الإرهابية فى كل من شمال حلب وريفها الغربى والمناطق المحاذية لها من محافظة إدلب، تمهيداً لتطهيرها من الجماعات الإرهابية. جوهر الأمر يصب فى إعادة هيكلة موازين القوة على الأرض لصالح الجيش السورى، وهو ما صدم الرئيس أردوغان الذى استيقظ يوماً ووجد أربعاً من نقاط المراقبة التركية الاثنتى عشرة المتفق عليها مع الجانب الروسى مُحاطة بالقوات السورية، أو بصياغة أوضح مُحاصرة تماماً ويمكن القضاء عليها إن تقرر ذلك بين دمشق وموسكو.
فى سياق المعارك التى جرت فى الشهرين الماضيين حقق الجيش السورى سيطرة كاملة على الطريق الدولى بين حلب ودمشق، وأكثر من 90 فى المائة من أراضى حلب وقراها ومدنها الرئيسية، وأنهى وجود المجموعات الإرهابية فيها، وهو ما أزعج أنقرة كثيراً، فهذه الانتصارات الميدانية لا تكشف هشاشة الوضع العسكرى التركى فى الأراضى السورية وحسب، بل أيضاً خطورة الاعتماد فى تحقيق الأمن القومى التركى على ميليشيات إرهابية لا علاقة لها بالأرض التى تسيطر عليها، وليست سوى قوى عميلة بلا أفق سياسى سوى الخضوع لمن يدفع. الأمر الذى دفع أنقرة لتعديل استراتيجيتها العسكرية فى إدلب وما حولها، أبرز عناصرها التملص التام من كل تفاهماتها مع الجانب الروسى بشأن خفض التصعيد، والمزيد من التورط العسكرى المباشر فى الشمال السورى، من خلال إدخال قوات عسكرية تركية كبيرة ترافقها أكثر من 120 مدرعة و70 دبابة وقوات خاصة وراجمات صواريخ، وتسليح المجموعات الإرهابية بأسلحة أمريكية متطورة صناعة تركية، منها مضادات جوية محمولة، بهدف منع الغارات الجوية الروسية والسورية على المواقع التى يتحصن بها الإرهابيون، ما يمثل تعدياً تركياً خطيراً على الخطوط الحمراء المتفق عليها من قبل مع موسكو، أما دعائياً فتركز أنقرة فى نفاق صريح على ما تصفه بالدوافع الإنسانية وراء حشودها العسكرية لحماية المدنيين فى إدلب ومنع مجازر محتملة، ولم تخل الدعايات التركية والأردوغانية تحديداً من التهديد بالمواجهة العسكرية المباشرة مع الجيش السورى وإعادته إلى مواقعه السابقة قبل أن يحرز انتصاراته الأخيرة.
لم تقف موسكو مكتوفة الأيدى، فكل التحركات التركية الميدانية هى خصم من الخطط والتحركات الروسية الساعية إلى تمكين الجيش السورى من السيطرة على إدلب وعلى كل الأراضى السورية، كما أنها تحمل مخاطر مواجهة روسية تركية ولو عابرة سواء فى الجو أو على البر، خاصة فى المناطق التى تقوم فيها دوريات روسية بتثبيت الأمن ومنع الإرهابيين من التسلل، الأكثر من ذلك فالحشود العسكرية التركية تحول الوجود التركى إلى قوة احتلال مباشرة وإلى أمد غير معروف، وفى كل الأحوال سوف تكون هدفاً لمقاومة سورية سواء كانت نظامية، أو من قبل مجموعات الأكراد الذين قضت تركيا على آمالهم فى تشكيل منطقة خاصة بهم فى الشمال السورى، ما يجعل المنطقة محملة بمخاطر وأزمات ممتدة تحول دون تحقيق أى تسوية سياسية فى المدى المنظور، وتشكل ضغطاً شديداً على موسكو.
المخاطر المحتملة تدعمها تحركات أمريكية تسعى إلى استغلال الأزمة التركية مع روسيا لتحقيق مزيد من التباعد بين أنقرة وموسكو، وهو ما عبر عنه مضمون محادثة الرئيس ترامب مع نظيره التركى قبل يومين، التى عبر فيها عن دعمه لما وصفه بالدور الإنسانى الذى تقوم به أنقرة لمنع مجازر النظام السورى فى إدلب، ما يدفع تركيا إلى مزيد من التورط عسكرياً أكثر فى الشمال السورى، والتشدد فى المباحثات مع الجانب الروسى لوضع صياغة جديدة لميزان القوى فى حلب وإدلب وما حولهما. هذا الموقف الأمريكى المفاجئ بعد فترة صمت وترقب لم يلحظ أن المراوغة التركية وعدم التزامها بالتفاهمات السابقة ودعمها المتواصل للجماعات الإرهابية وتورطها العسكرى المتزايد هو الأصل فى الأزمة الإنسانية المتصاعدة فى شمال سوريا، وليس تقدم الجيش السورى لتحرير بلاده من الإرهابيين والخونة والاحتلال التركى، ولكنها السياسة التى تسعى دائماً إلى استغلال الأزمات لتحقيق انتصارات دعائية لا قيمة لها. من جانبها تدرك موسكو أن تقاربها السابق مع أنقرة لا يعنى بالضرورة أن تتفق معها فى كل شىء، وفقاً لوزير الخارجية سيرجى لافروف فى مؤتمر ميونيخ للأمن، وهكذا يتأكد أن الحديث المتصاعد عن الاعتبارات الإنسانية ليس سوى نفاق دولى صارخ، يبرر احتلال تركيا لمزيد من الأراضى السورية، والتملص من الالتزامات الخاصة بتحييد الإرهابيين.
الرؤيتان الروسية ومعها الحق السورى فى تطهير البلاد من الإرهابيين من جانب، والرؤية التركية من جانب آخر متباعدتان، ومع ذلك تسعيان للتخفيف من آثارهما ومنع احتمالات مواجهة مباشرة عبر مباحثات بين الخبراء، ولكن الواقع الميدانى الجديد لا يسمح لأحدهما بالعودة إلى الوراء لا سيما الجيش السورى، ولذا ستظل المواجهة محتملة عسكرياً، ومستعرة سياسياً ودعائياً.