الامتياز.. والحق «فى التعليم»

زمان كان التعليم فى مصر امتيازاً وليس حقاً. وأرجو أن نكون متفقين فى البداية على أن التعليم شىء والشهادة شىء آخر. خلال الفترة التى كان التعليم فيها امتيازاً كان هناك تعليم حقيقى، لكن عندما تحول إلى حق بدأت الأمور فى الاختلاف، حيث أصبحت الشهادة منتهى الأمل والمنى. التعليم كان امتيازاً عندما كان الهدف منه تخريج كفاءات قادرة على إدارة دولاب الدولة والعمل فى مؤسسات الحكومة.

كذلك كان تصور الهدف من التعليم فى مصر خلال القرن التاسع عشر وحتى العقود الأولى من القرن العشرين، لذلك كانت معدلات الزيادة فى عدد المتعلمين وحملة الشهادات، خصوصاً الشهادات العليا، تتم ببطء. سياسة التعليم كامتياز سيطرت على رحلة البداية فى مسيرة التعليم، ثم بدأت تتراجع بمرور الوقت، مع ارتفاع الأصوات المنادية بجعل التعليم حقاً كالماء والهواء، كما كان يدعو عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وفى عهد وزارته للمعارف اتّخذ قراراً بتعميم المجانية على مراحل التعليم قبل الجامعى، ولما قامت ثورة يوليو 1952 جعلت التعليم الجامعى وما بعد الجامعى (الدراسات العليا) مجانياً هو الآخر.

مؤكد أن طه حسين كان يدعو إلى تعميم التعليم وليس تعميم الشهادات، لكن ما حدث خلال النصف الثانى من القرن العشرين وما تلاه، أن تحولت المدرسة والجامعة إلى مجرد مطية أو وسيلة للحصول على شهادة. أزمة تحول التعليم إلى وسيلة للحصول على شهادة كانت حاضرة على أجندة اهتمامات الكثير ممن جلسوا على كرسى وزارة التربية والتعليم منذ عقد الثمانينات. وكم من ندوات ومؤتمرات عُقدت لبحث هذا الأمر، وكم من أحاديث تواترت هنا وهناك عن مأساة الدروس الخصوصية والغش، وبعبع الثانوية العامة كمؤشرات على أزمة تحول التعليم إلى شهادة. وما أكثر ما تبنى وزراء مشروعات لتطوير التعليم حتى تصبح المدرسة قادرة على تقديم خدمة تعليمية حقيقية، وكم من مرة تغيّر فيها نظام الثانوية العامة، وما أكثر ما كانت تستعر المناقشات حول مكتب التنسيق كبوابة لدخول الجامعات. كل وزير كان يتحدث عن نظام جديد يتبناه، لم يكن يتكامل فى الأغلب مع من سبقه، بل كان يفضّل البدء على «نظافة». وما أكثر ما تحدث كل منهم عن عبقرية خطته للتطوير، تماماً مثلما كان يردّد الشيخ درويش فى رواية زقاق المدق عندما ذهب إلى رئيسه فى العمل وقال له: «لقد اختار الله رجله.. إنى رسول الله إليك بكادر جديد».

مشكلة التعليم فى مصر أساسها ببساطة عدم وجود طلب على العلم، سواء على المستوى الرسمى أو على المستوى الشعبى. فمنذ عقود طويلة تراجعت قيمة الكفاءة العلمية كأساس للنجاح أو الصعود الوظيفى وتقدّمت عوامل أخرى. وأى عقلية تفكر بهذا الأسلوب من الصعب أن نتأمل من ورائها إصلاحاً لمنظومة التعليم المتهاوية فى مصر، وفى الوقت نفسه لم تعد الأسرة المصرية منذ عقود تقيم وزناً لفكرة التعليم أو التميز الفكرى أو الإبداعى، وتحتفى كل الاحتفاء بالشهادة والمجموع، حتى لو كان بالحفظ أو بالسطو والغش أو بالسطوة. فالمهم الشهادة كورقة تشتغل عليها الواسطة لمن كان يملكها، أو كتذكرة سفر إلى الخليج للعمل، لمن لا يملك واسطة!.