ضد مجهول
حملت الساعات الأولى من صبيحة «معركة الإسماعيلية» (26 يناير 1952) حدثاً داهماً، ظل عالقاً بذهن من عاصره من المصريين، وسجّله التاريخ كواحدة من الحوادث الكبرى العجيبة التى سُجلت «ضد مجهول». أبت الأحزان أن تفارق الوجدان المصرى، فأعقب حدث الإسماعيلية حدث أكبر فى القاهرة. شرارة صغيرة اندلعت منها نار كبيرة حرقت كل شىء فى القاهرة. لم يكن يوم 26 يناير يوماً عادياً فى حياة المصريين أو تاريخهم. يسجل نجيب محفوظ فى روايته «السمان والخريف» أن لسان حال الناس فى الشوارع كان يردد فى دهشة: «ماذا فى القاهرة؟.. ماذا فى البلد؟.. القيامة قامت.. أين الحكومة؟».
الجالسون فى البيوت أصابهم الذهول وهم يتسمّعون الأخبار التى يصرخ بها الناس فى الشوارع أو يبثها أثير الإذاعة. أما من كانوا وسط الحريق فكانوا يهتفون، كما يسجل نجيب محفوظ: «احرق.. خرّب.. يحيا الوطن»!. العبارة التى سجلها «محفوظ» كانت عجيبة، فكيف تستقيم الحياة مع النار والخراب؟. كان ثمة من يجرى فى الشارع ويحرق ويردد الشعار بتلقائية عجيبة. المصريون مهما غضبوا من الأوضاع المحيطة بهم فإن محبتهم للوطن لا تهتز. وما أكثر ما يعبّر غضبهم عن محبة عميقة للتراب الذى يعيشون فوقه وخوفهم على كل ذرة منه. وصف صلاح جاهين المحبة الخالصة من جانب المصريين لبلدهم بقوله: «أحبها والعن أبوها بعشق زى الداء»!. من شارك فى حريق القاهرة يوم 26 يناير 1952 كان يعاقب نفسه، يؤلم ذاته التى سكتت على الظلم الواقع عليها، يعبّر عن غضبته العنيفة للدماء التى أُهدرت قبل ساعات فى الإسماعيلية. وقد لخص الشعار الذى رفعه الواقفون على حافة المحرقة يومها هذه الحالة: «احرق.. خرّب.. يحيا الوطن»!. اختلطت سحب الدخان المتصاعد من الحرائق المشتعلة مع سحب شتاء يناير، وانتظر الجميع سقوط المطر، فهو وحده القادر على إطفاء الحريق، وتنظيف النفس من أوشابها.
بعد ساعات من الحدث الشهير قفز سؤال أشهر لم يزل بلا إجابة حتى اليوم، سؤال: «من الفاعل؟». وصف نجيب محفوظ من حرق القاهرة على لسان بطل السمان والخريف بـ«الوجوه الغريبة التى تفوح منها رائحة الغدر». أما خليل حسن خليل صاحب رباعية «الوسية» وأحد من عاصروا هذا الحدث عياناً وسماعاً، فقد سجّل مشاهداته وكذا ما استمع إليه فى الجزء الثانى من سيرته الذاتية المعنون بـ«الوارثون». وذكر أن أحد أصدقائه صرخ: «أحرقوا القاهرة»، سأل خليل: من الذى أحرقها؟ رد عليه صديقه: «رأيت الناس بعينى وكأن الجن قد ركبهم والشياطين قد نفثت النار فى عيونهم وأفواههم وأيديهم، فقلبت القاهرة إلى جهنم». كان رأى «خليل» أن العفن بلغ بالنظام درجة لم تجد الجماهير معها إلا النار لتتعامل معه. كان لا بد من النار لتطهير آثام النظام.
اتهامات عديدة طالت القصر وبعض القوى السياسية، مثل حزب مصر الفتاة، بحرق القاهرة. تعدُّد الاتهامات أفضى فى النهاية إلى توزيع دم الحدث ما بين القبائل السياسية المتناحرة فى مصر آنذاك. وفى الختام قيدت أغلب كتب التاريخ الحدث المذهل الذى لف بدخانه بر المحروسة «ضد مجهول».