ماجدة الجندي: "الغيطاني" كان فرداً في المجموعة "39 قتال"وعبَر قناة السويس معهم

كتب: حوار: خالد عبدالرسول

ماجدة الجندي: "الغيطاني" كان فرداً في المجموعة "39 قتال"وعبَر قناة السويس معهم

ماجدة الجندي: "الغيطاني" كان فرداً في المجموعة "39 قتال"وعبَر قناة السويس معهم

بينما مرت قبل أيام الذكرى الرابعة لرحيل الكاتب والروائى الكبير جمال الغيطانى، لا تزال زوجته الكاتبة الصحفية ماجدة الجندى، تشعر أنه حاضر فى مسار حياتها، بل وفى ضمير الوطن، الذى لا يزال يواجه تحديات غير مسبوقة، من وجهة نظرها، تستدعى إنعاش ذاكرة الأجيال الجديدة بما سبق وسجله زوجها الراحل على جبهة القتال ضد العدو، من «كنوز» أدبية وصحفية عن عظمة المصرى، وقدرته على التضحية والصمود والتحدى والانتصار.

وفى حوار أجرته معها «الوطن»، استعادت ماجدة الجندى ذكرياتها مع الأديب والصحفى الراحل، وقالت إنها تعرّفت عليه عندما سبقها لكتابة تحقيق عن «خطابات الجنود المصريين لأهاليهم فى الحرب»، ثم «أحبته كما لم يحدث من قبل»، ولا تزال علاقتهما ممتدة إلى الآن، لا سيما وهى تفتش فى عظمة تراثه وكتاباته الصحفية من مدن القنال، التى سجلت أدق التفاصيل الإنسانية، وأشاد بها الرئيس الراحل عبدالناصر، وربما تشير أيضاً إلى أننا لم نعرف «أكتوبر» كما يجب حتى الآن.

وكشفت «الجندى» عن مشروع كبير لتوثيق ونشر تراث «الغيطانى» وكتاباته سواء فى تصوير ملحمة القتال ضد العدو الإسرائيلى من 1967 حتى 1974، أو فى نضاله حديثاً ضد «الإخوان» الذين أقلقهم حديثه المبكر، قبل 30 يونيو، عن أنهم جسم غريب على المجتمع سرعان ما سيلفظهم.

الكاتبة الصحفية: "جمال" قدم "الشهيد الرفاعى" فى رواية بنفس الاسم واشتراها التليفزيون عام 1980 ولم تخرج للنور

كيف مرت عليك الذكرى الرابعة لرحيل الكاتب الكبير جمال الغيطانى؟

- هذا السؤال له مستويان؛ مستوى عام وآخر خاص، فعلى المستوى الخاص أنا فى معية «جمال» منذ أن التقيته سنة 73، ولدى شعور أنه حاضر فى مسار حياتى وطريقتها، وعلى المستوى العام ستندهش أن هذا العام كان حاضراً بقوة وعبر أشياء لم يتم الإعداد لها، فالفنانة عزة فهمى صممت مجموعة مجوهرات إسلامية مملوكية، وهى فنانة صارت واحدة من الموثقين لتاريخ مصر بقطع الحُلى التى تصممها، وأهدتها لروح جمال الغيطانى، واختارت صورة عريضة ودونت عليها اسمه وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته، وكان ذلك فى 18 أكتوبر، تاريخ وفاته، وكانت لحظة مدهشة ومصادفة جميلة جداً بالنسبة لنا، خاصة أن عزة فهمى سبق أن قالت إن الذى قادها إلى القاهرة المملوكية كان جمال الغيطانى، لأنها ذات مرة فتحت التليفزيون ووجدته يتحدث فى برنامج «تجليات»، وقالت أريد أن أرى هذا الجزء من القاهرة بعيون هذا الرجل، فكان رافداً مهماً جداً أمامها فى اهتمامها بهذه المنطقة، ما أثمر مجموعة إسلامية أهدتها إلى روح العارف بالقاهرة جمال الغيطانى، وطبعاً علاقة «جمال» بالقاهرة القديمة علاقة معروفة.

وحدث شىء آخر، أن مصر هذا العام كانت ضيف شرف معرض الكتاب فى بلغاريا، الذى ما يزال مستمراً، و«جمال» له أكثر من عمل مترجم إلى الصربية كان من ضمنها «القاهرة فى ألف عام»، والناشر استأذن فى طبعة ثانية، وأرسل مصورة محترفة إلى القاهرة، وصورت الأماكن التى تحدث عنها «جمال» فى الكتاب، وأصدر كتاباً مصوراً اسمه «قاهرة الغيطانى». وأريد أن أقول إن الناس لا تزال تسألنى لو كان «جمال» عايش إلى الآن كان هيكتب إيه؟ وهذا معناه أنه حاضر، وكما يقولون وكأن الغياب متمم للحضور، بالعكس الحضور بمشروعه ووجوده إضافة حقيقية، فـ«جمال» كان جزءاً من الناس وكان لديه إخلاص لفكرة الكتابة سواء الأدبية أو الصحفية بشكل مطلق.

سبقنى لنشر تحقيق عن "خطابات الجنود لأهاليهم" ورؤوف توفيق عرّفنى عليه قائلاً: "هذا صديقك اللدود" 

كيف كانت ظروف التعارف بينكما؟

- التحقت بمؤسسة «روزاليوسف» سنة 72، ثم جاءت حرب 73 وحدثت أكثر من واقعة، قادتنى إلى المصير الواحد مع «جمال».. الواقعة الأولى أنه أيام الحرب أجريت تحقيقاً عن خطابات المجندين لأهاليهم، وكنت بشتغل وقتها فى «صباح الخير»، وكانت تصدر يوم الثلاثاء، ووجدت تحقيقاً عن نفس الموضوع منشوراً لـ«جمال» فى «أخبار اليوم»، يوم السبت، وكان هذا بالنسبة لفتاة عندها 19 سنة، كأن الدنيا انهارت وأن إبداعها مهدد، فانتبهت للاسم ولم أكن أعرف وقتها من هو، ثم مرت شهور أكتوبر ونوفمبر وديسمبر، وجاء لنشر كتاب فى «روزاليوسف» اسمه «المصريون والحرب»، وأرسل لى الأستاذ رؤوف توفيق، أطال الله عمره، وقال لى صديقك اللدود أهو، فعرفته من وقتها.. وحدث أيضاً شىء آخر أنه تم عرض عدد من الأماكن الأثرية سنة 74، منها بيت السحيمى، لاستغلالها كمطاعم، وأيضاً الأستاذ رؤوف توفيق قال لى وقتها أفضل من يعطيك فكرة عن هذه المنطقة هو جمال الغيطانى، زميلنا فى «أخبار اليوم»، وطلبته ورحب، والتقينا وتعرفت طبعاً به.

 

ومن بادر أولاً بإعلان رغبته فى الارتباط؟

- قبل ما أعرف «جمال» كانت «روزاليوسف» فيما مضى ليس لها بوابة، وكانت مفتوحة على الشارع، وتطلع السلالم تلاقى الأسانسير فى وشك، والأسانسير بتاع «روزاليوسف» كان بيقف فى الدور السادس، و«صباح الخير» فى السابع، وفى طابور كده قدام الأسانسير وشخص واقف قدامى، وفاكرة كان لابس إيه، وكان «جمال»، ولا أعرف لماذا ركزت، فأنا أحببت «جمال» كما لم يحدث، وبيننا نسيج عريض جداً، وأعظم ما فيه كان التفاهم، وما أعرفش مين راح للتانى الأول، لكن «جمال» كان «ونستى» فى الحياة من وأنا عندى 19 سنة حتى اليوم.

عندما التحق بـ"أخبار اليوم" كتب تحقيقاً بعنوان "المقاتل المصرى.. الإنسان والسلاح".. رآه "عبدالناصر" بالمصادفة وقال: "عايزين النهج ده"

ماذا عن مشاريع نشر ما لم تُنشر حتى الآن من أعمال «الغيطانى»؟

- لدينا، نحن أسرة الغيطانى، مشروع كبير لتوثيق ما لم يُنشر من كتاباته، وهو له كتاب اسمه «المصريون والحرب»، صدر سنة 74، وأعدنا طبعه السنة الماضية، لكن هناك كنزاً آخر نريد نشره، فـ«جمال» منذ سنة 68 حتى 74 كان مقيماً بمدن القنال، فهو التحق بـ«أخبار اليوم» بعدما كان يعمل فى مؤسسة التعاون الإنتاجى الخاصة بحرف خان الخليلى، وعندما التحق بـ«أخبار اليوم» كتب تحقيقاً من الجبهة بعنوان «المقاتل المصرى.. الإنسان والسلاح»، ورأى هذا التحقيق، بالمصادفة، الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وقال: «إحنا عايزين هذا النهج»، لأن جمال الغيطانى طريقة اقترابه من الموضوع لم تكن طريقة صحفى بقدر ما كانت طريقة كاتب، لأنه كان ينقل تفاصيل ويلضم ويضفر الجانب الإنسانى، وترى فى كتاباته المقاتل من الداخل والخارج، والإنسان وعلاقته بالأرض وعائلته وحياته والسياق الذى يحيا فيه.. ووقتها تقدم «جمال» بطلب للصحفى الكبير موسى صبرى أن ينتقل ليكون مراسلاً للجريدة فى القناة، ووافق ودعّمه بسيارة وقتها بها تليفون، وكان ذلك وقتها حدثاً مهماً، وبدأ منذ سنة 68 هو والمصور المرحوم مكرم جاد الكريم توثيق ما كان يحدث هناك ومجريات الحرب.

كان أول من وثّق صعود الـ"فانتوم" وإغراق الغواصة الإسرائيلية "داكار".. وكتاباته كانت أشبه بفيلم درامى

وما طبيعة التفاصيل التى وثّقها من على الجبهة؟

- ما تم توثيقه عندما تقرأه اليوم شىء يفوق الوصف، وعندما كنت أجمعه كان جسمى يقشعر، أولاً هو بدأ من حرب الاستنزاف، ودع جانباً فكرة أنه أول من وثق صعود أول طائرة فانتوم، وإغراق الغواصة الإسرائيلية «داكار»، لكن ما استوقفنى جداً هو الدقة الشديدة جداً فى تعامله فى الكتابة، يعنى وأنت تقرأ كأنك تشاهد فيلماً، وتسمع الأصوات وتشم الرائحة، وتلمس الأشياء، فهو لم يكن يترك تفصيلة واحدة، ويتضمن ذلك البعد الإنسانى العبقرى، وهذا الفلاح الذى جاء من «الغيط»، ثم وقف وراء مدفع، وترى رحلة تطوره بكل تفاصيله، وهذا تراث عندما تقرأه تشعر أننا لا نعرف شيئاً عن حرب أكتوبر، ما لم يخرج هذا الإرث القوى للنور، لأنه أولاً ليس درساً مستفاداً فى الحرب فقط، ولكن لأنك تفهم من خلاله الإنسان المصرى، زى «الغريب» الذى تراه فى الشارع فتقول «ده هليهلى» ثم تفاجأ به بعد تدريبه أنه تحول لنموذج مختلف تماماً، وطبعاً كان فيه بعض فلاحين فى الإسماعيلية والسويس لم يهاجروا ورفضوا هذه الفكرة، وكان لديهم أرض، ربع فدان وتمن فدان، وعندما تذهب كتيبة تستقر فى مساحة أرض زراعية، وعن طيب خاطر تجد فلاحاً يزرع شجر زيتون يقلع الزيتون طواعية ليغطى به الدبابات.

رصد اقتلاع فلاح لأشجار الزيتون للتمويه على دباباتنا.. والفلاحة التى طبخت البطاطس لجنود الكتيبة.. ومقاومة "فرقة أولاد الأرض" للمدافع بالغناء

وكتب «جمال» أيضاً عن فلاحة اسمها «أم رفاعى»، كان عندها نص فدان، زارعة فيهم شوية جرجير، وبتطبخلها شوية بطاطس، وتعمل حساب عساكر الكتيبة معاها، وترى العلاقة التى نشأت بين الاثنين، كما ترى فكرة مقاومة الموت بالحياة، وتعرف أن الكابتن غزالى فى السويس، وفرقة الأرض التى كانت تغنى أغانى وطنية، وكان يحلو لهم الرقص والغناء، وإسرائيل تضرب بالمدافع، فيعلو صوت الغناء والإيقاع مع عنفوان الضرب، وكأن الغناء يقويهم.. وفيما يتعلق بحرب الاستنزاف، ينبغى أن نشير إلى أن «جمال» أصبح طرفاً فى قضية قانونية ضد المؤرخ المرحوم عبدالعظيم رمضان، عندما أنكر الأخير فى أحد كتبه حرب الاستنزاف، ولم يعتبرها حرباً، وفى هذه القضية طلب «الغيطانى» شهادة كل قادة أكتوبر الذين كانوا موجودين وقتها، وكسب القضية طبعاً.

لدينا مشروع لتوثيق ما لم يُنشر من أعماله.. وكتاباته على الجبهة من 67 حتى 74 كنز يجب تقديمه للأجيال

وكيف يمكن توظيف هذا التراث اليوم؟

- علينا أن نستفيد منه وننتجه بقصد واضح لبناء ذاكرة الأجيال التى تركناها، فحتى اليوم روسيا تُنتج أفلاماً عن معركة ستالنجراد (إحدى أهم معارك الحرب العالمية الثانية). ونحن لدينا أكثر من ستالنجراد، لأننا لدينا تفاصيل لا تستحق فقط، وإنما تجعلك تعيد اكتشاف نفسك أيضاً، فعندما يأتى فيلم به قشرة صغيرة مثل «الممر» ويُحدث هذا الأثر فى الناس والأجيال، فأنا حفيدى «مالك»، لديه 8 سنوات، وعلى الرغم من أنه يعيش مع والدته فى أمريكا، إلا أنه شاهد الفيلم 3 مرات، وعندما يكون لديك هذا الكنز لا بد أن نستفيد منه فى أن نجعل أشياء معينة حاضرة، خاصة أن هناك بلاداً خلقت لنفسها تاريخاً من شذرات فى الذاكرة، أو ما يشبه «البازل»، وقالت هذا تاريخى، بينما نحن تاريخنا موصول، وغير منفصل تماماً عن اللحظة التى نعيشها الآن.

الفن أبلغ من عشرات التوجيهات المباشرة و"الغيطانى" قدم حقائق أروع من الخيال ويمكن تحويلها لأفلام

هل نفهم من ذلك أن هناك نوايا لتحويل أعمال أخرى من أعمال «الغيطانى» لأفلام، على غرار «حكايات الغريب»؟

- «جمال» حصل على جائزة الدولة التشجيعية سنة 79 عن رواية اسمها «الرفاعى»، عن الشهيد إبراهيم الرفاعى، وهو أول من قدم هذه الشخصية.. و«جمال» كان فرداً فى المجموعة 39 وتلقى تدريباً معها، وكان يعبر معهم، وبعد استشهاد «الرفاعى»، أظن فى 20 أكتوبر، أخرج الشحنة التى كانت داخله فى هذه الرواية، واشتراها منه ممدوح الليثى، الله يرحمه، سنة 80 لتُنتج فى التليفزيون المصرى، ولم تخرج إلى النور حتى الآن.

و«الغيطانى» له رواية بعنوان «حصار من 3 جهات» عن حصار كبريت، وكلها أعمال إبداعية كانت ثمرة لأكتوبر، و«حكايات الغريب» التى تعيش حتى يومنا هذا ليست إلا ورقتين تلاتة فى مجموعة كبيرة جداً.

 

وعندما نستعيد ما قاله الرئيس السيسى عن أننا نريد عمل «مثل فيلم الممر» كل 6 شهور، نجد أن النصوص موجودة، وهى حقائق ومعايشات، وليست من وحى الخيال، وهذا رجل سافر وعاش ووثق، وما اكتشفناه من كتاباته لا يتعدى نسبة الـ10% من الموجود، وهناك نصوص وأعمال إبداعية كاملة، وحتى النصوص الصحفية يمكن أن تخرج منها تلال من القصص، ونحن لا نحتاج لنقول «كلام خيال» فالحقيقة أروع من الخيال. وأنا مؤمنة أن أى عمل فنى جيد أبلغ من عشرات المقالات، والتوجيهات المباشرة، بالنسبة للمتلقى، سواء من الأجيال الجديدة أو حتى الكبار، ولا بد أن تظل الذاكرة حية.

ماذا عن علاقة الكاتب الراحل بالإخوان وفترة حكمهم لمصر؟

- مشروعنا الثانى هو أن نجمع كتابات «الغيطانى» ضد الإخوان التى بدد سنة كاملة فيها قبل 30 يونيو، ولا يمكن أن أنسى يوم ما «مرسى» كان يحلف اليمين، طلعت «الأخبار» بيوميات «وداعاً مصر التى نعرفها»، وقال فيها إنه لأول مرة تُحكم مصر برئيس هو مرؤوس، ومن هذا اليوم دشن تقريباً مشروع كتابة يومية كان يؤسس فيه للإجابة عن سؤال: «لماذا سيلفظ الجسم المصرى الإخوان؟»، وكيف أن الجماعة محاولة لاقتلاع الهوية المصرية.

"الإخوان" هددوا بقتله أو بالتعرّض لأولاده قبل30 يونيو.. وكان ينام وإلى جواره مسدس 

ما كواليس الصدامات التى حدثت بينه وبينهم؟

- تم تهديده بشكل مباشر، وإحنا بنشتغل شغلانة على الهواء، واليوميات التى كان يكتبها قبل 30 يونيو أسست لموقفه، وكان مُهدداً، وكانت عليه حراسة، وينام وبجواره مسدس، وأحياناً كان يتم تهديده بأولاده، وهو لم يدع لا بطولة ولا قال ذلك، وكان أحياناً يقف وحيداً، ودشن بهذه اليوميات موقفه، وبدأ يؤسس لهذا الموقف، وهنا أهمية الثقافة، وأشار إلى أن هذا الفريق (الإخوان) ليس فريقاً سياسياً عادياً وإنما «نقيض» إما أنت وإما هو. وأريد أن أقول إن جيل الستينات، و«جمال» واحد منهم، عندما كانوا يقولون إن ما يشغلهم فقط هو الهم العام وعلاقتهم بالبلد، كانوا صادقين فى هذا، وكانوا متوحدين معه، وبالعكس كانت حياتهم الخاصة متراجعة تماماً، وظلوا كذلك حتى آخر نفس، وإبداعهم وحده كفيل بأن ترى ذلك.

إلى أى حد نحتاج لغرس هذه الروح الوطنية مرة أخرى عند المصريين؟

- أشعر بقلق، فإذا كانت لدينا مشاكل اقتصادية يمكن أن نحلها، ويمكن أن نعيد بناء مصر، إنما ما يقلقنى منذ فترة، يمكن منذ بداية الألفينات، أن الشق الاجتماعى لدينا به مشاكل كثيرة جداً جداً، جزء منها كان صدى لرؤى اقتصادية، واليوم عندما تُقدم الدولة معالجة جذرية للعشوائيات، أو لفيروس سى، فلأول مرة نعالج أشياء من الجذر، ونحن لدينا أوجاع اجتماعية محتاجة لتكاتف رؤى رجال علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، فمثلاً تشعر أنه لا يوجد سياق واحد للمصريين، فما يحدث فى العمارة وفكرة «الكومباوند» وانعكاسها على العلاقات الاجتماعية، والانغلاق الذى يحدث فيها له صدى، فأنا كنت أعمل فى «روزاليوسف» بشارع قصر العينى، و«كان فاتح على جاردن سيتى، الحى الراقى، وفى نفس الوقت فاتح أيضاً على المبتديان وباب اللوق»، وأعتقد أن عزلة سور الكومباوند، سنرى لها تداعيات على المستوى الاجتماعى، والمكان الوحيد الذى ينصهر فيه المصريون حالياً هو الجيش، وفيما عدا ذلك فالمصريون ليس لهم ناد واحد، ولا مستشفى واحد، ولا شارع واحد، لأن هذه التجمعات السكنية لا بد سيكون لها صدى على المستوى الاجتماعى، حيث تنتفى وحدة الحى والناس ويحل محلها وحدة أخرى برؤى أخرى.

وهل ثمة سلبيات اجتماعية أخرى تقلقك؟

- هناك أيضاً العنف، وأستطيع أن أقول إن هناك تراجعاً فى القيم، وتغيراً فى المزاج والوجدان المصرى والعلاقات بين الناس. وتوجد حالة تنمر داخلى اجتماعى ترقبها عن بعد، و«الناس باصة للناس» على كل المستويات الاجتماعية، وفيما مضى كان الدكتور سيد عويس، وهو قطب أقطاب علم الاجتماع، له رؤية فى الشخصية المصرية، وأنه مثلما أن فيها إيجابيات ممكن أن يكون فيها بعض السلبيات نتيجة أوضاع تاريخية وجغرافية، وأعتقد أننا نحتاج أقطاباً فى قامة «عويس» لنرى ما جرى لنا من تغير، لكن لا بد أن نذكر أيضاً أننا وقت الجد، وعندما يكون هناك تحدٍ حقيقى، تتغير هذه الشخصية، وتجدها كتفاً بكتف ومتعاونة. والموضوع كبير بالطبع، لكن أنا أعتقد أن التداعيات الاجتماعية محتاجة لوقفة، ويمكن أن تتحسن على المدى الطويل.

وما رؤيتك لكيفية علاج هذه التداعيات الاجتماعية؟

- لى ملاحظات على المحتوى الإعلامى، ففى جيلى كنا نشاهد برامج فن الباليه، ونادى السينما، وعالم الحيوان، وعالم البحار، والنادى الدولى، واخترنا لك، وكل هذه المكونات كانت تضخ وتبنى أشياء فى شخصيتنا، والآن ففيما عدا قنوات الطبخ التى أرى أنها الوحيدة المتسقة مع نفسها، وتقول أنا قناة طبخ وتقدم الطبخ، فيما عدا ذلك فإنك لن تجد محتوى فى الأربع أو الخمس قنوات التى تطل علينا غير أن مجموعة فنانين، مع كامل الاحترام لهم، يستضيفون فنانين تانيين، بتنويعات وعناوين مختلفة، إذاً فماذا تضخ؟ ولا بد أن يكون هناك قصد لضخ أشياء هادفة، فعندما عرضنا فيلم «الممر» فى اليوم التالى وجدنا الناس والجرائد كلها تتكلم عن الموضوع، وهذا يجعل هناك ضرورة أن نضع رؤية على مدى طويل تتضمن كيف نريد تشكيل هذا الوجدان، وماذا نريد أن نزرع فيه، لأن المدخلات تُخرج لى مخرجات شبيهة بها.

"جمال" تقدم بطلب لموسى صبرى أن يكون مراسلاً للجريدة بمدن القناة.. ووافق ودعّمه بسيارة بها تليفون وكان ذلك حدثاً كبيراً وقتها

كيف يمكن أن نستخدم ثقافتنا لاقتلاع الإرهاب من جذوره؟

- لن أحاسب الناس على نواياها، لكن سآخذ بعض الممارسات العلنية، فمنذ متى مصر كان فيها مُدرسة منتقبة تُدرس لتلاميذ ابتدائى؟ وكيف نحن لا نستطيع حتى الآن أن نأخذ قرارات بسيطة؟ فالدكتور جابر نصار عندما تولى جامعة القاهرة تولاها والإخوان مهيمنون فيها تماماً، ولكنه تركها وهى واحة آمنة، وذلك من خلال مجموعة من القرارات، حيث منع مثلاً دخول المنتقبات، إنما أنت عندك مُدرسة منتقبة وعندك خطاب فى الزوايا، ولا بد أن تكون هناك إجراءات جادة وواضحة ونكون متسقين مع أنفسنا، وهناك تناقضات كبيرة، فنحن ما يزال لدينا حزب دينى قائم، ونحل قضايا الاعتداء على الأقباط عن طريق الأعراف، واليوم البيئات التى صدرت لنا كل هذا الجنوح تتخلص منه، ونحن ما زلنا فيه.

ما تعليقك على أوضاع الثقافة فى مصر الآن؟

- ما زلت أرى أن تكريس العمل الثقافى يكون فى قاعدة قصور الثقافة، من خلال الفيلم والمسرحية والكتاب.. ولا بد أن نرى قائمة مكتبات وزارة التعليم، ماذا تحوى حالياً، وهناك واقعة حكاها لى ناشر كبير أرسل لوزارة التربية والتعليم يقترح أن تقتنى كتباً لنجيب محفوظ، وردت عليه المسئولة، قالت له: «بس والنبى يكون الحاجات اللى لسه كاتبها جديدة السنة دى». وأنا أسأل وزارة التربية والتعليم، وهى تهتم بـ«التابلت»، أنت كوطن يجب أن تكون معنياً بمكونات يجب أن تكون موجودة، ولا بد أن نسأل عن علاقة هؤلاء الأولاد بالوطن ما شكلها؟ وأنا أريد الأجيال الجديدة أن تعرف مفاصل معينة، ومثلما هناك اهتمام بالأداة والوسيلة، يجب الاهتمام بالمحتوى وبالفنون والثقافة. ونحن لدينا ظاهرة خطيرة أيضاً وهى تعدد أنواع التعليم، ومنها التعليم الدولى، الذى أنتج الآن ما يمكن تسميته بالمواطن الدولى، وفى إحدى المدارس ولى أمر أرسل لى منذ فترة يقول إنهم يدرسون حرب أكتوبر فى المدرسة ويقولون فيها إن مصر هُزمت فى الحرب، وهنا لا بد أن نبحث عن حل لتعدد أنماط التعليم، وأن نقصد إدخال مكونات معينة.

 

«الغيطانى» مراسلاً حربياً وسط الضباط على جبهة القتال

 

 


مواضيع متعلقة