حوت بركات.. حكاية حفرية على قطعة رخام بشق التعبان: عمرها 40 مليون سنة

كتب: نهال سليمان

حوت بركات.. حكاية حفرية على قطعة رخام بشق التعبان: عمرها 40 مليون سنة

حوت بركات.. حكاية حفرية على قطعة رخام بشق التعبان: عمرها 40 مليون سنة

لوح من الرخام "أو طاولة" كما يسمونها، عادت من أحد الموانئ المصرية لرفض تصديرها إلى الخارج بسبب عيوب لحقت بها، لتستبدل مصيرها عبر صدفة، من الإهمال وعدم الاهتمام، بأن تصبح على قدر من الأهمية العلمية لإحداث ثورة جديدة في عالم حفريات الكائنات البحرية، حين وقعت في يد شاب مصري، اعتبرها كنز ساقه القدر إليه، رافضًا أن يبيعها بملايين الدولارات لدول أجنبية.

محمد بركات، 28 عامًا، أمضى ليلة الأحد قبل الماضي كمثيلاتها، ممسكًا هاتفه الذكي، يتجول عبر صفحات موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، لتظهر أمامه صفحة "الحفرجي" المهتمة بالحفريات، وبعد مطالعة الصفحة وجد تقريرًا حديث عن "حوت المطبخ" الذي وجدت إيطاليا حفرياته في أحد قطع الرخام المستورد من مصر في عام 2003، والذي سارع عمال الورشة الإيطاليين بمهاتفة الجامعة ليتم اكتشاف رأس حوت يرجع عمره إلى 40 مليون سنة، ليتحول التقرير إلى حقيقة عاشها الشاب المصري بنفسه في صباح اليوم التالي.

في صباح يوم الإثنين، كان محمد بركات، متوجها إلى ورشة الرخام التي يملكها والواقعة في "شق التعبان"، بعد أن قرر أن يتخذ مهنة والده وأعمامه كعمل حر بعيدا عن "المحاسبة" التي هي تخصصه الدراسي، وبعد أن تجمع عمال الورشة التابعة له، توجه "بركات" والعمال إلى مصنع يبتاعون منه رخام مرفوض تصديره، وذلك بسبب عيوب بسيطة يمكن التغلب عليها.

"الرخام دة سعره أقل واشتريت الطرد كله، العمال بدأوا يحملوا طاولة والتانية وجت الطاولة الثالثة لقيت شكل غريب فيه ملامح باينة لوجه وأسنان وأنياب وضروس وفقرات.. إحنا متعودين نشوف فقرات وبواقي عظام في الرخام وساعات سمك، بس بتبقى حاجة صغيرة ومش ملامح كاملة كدة وكل مرة كنا بناخدها نحتفظ بيها شوية وبعد كدة تضيع أو تترمي لكن المرة دي كنت قريت وفهمت قبلها بكذا ساعة بس"، وذلك بحسب حديث "بركات" لـ"الوطن".

صدفة جعلت" بركات" يطالع قصة هو على وشك أن يكون أحد أبطالها، فازداد لديه الوعي، وخلق ذلك لديه إجابة السؤال "لما نلاقي حاجة كدة نوديها فين ولا نعمل إيه؟"، وهنا أصبحت الإجابة هي التواصل مع صفحة "الحفرجي"، لكن قبل ذلك اهتم الشاب العشريني بأهمية وصول القطعة الرخامية بسلام، فطلب من العمال أن ينتبهوا لها "بصيت للصنايعية وللرخام وقلت لهم وقفوا دي راس دولفين أو رأس تمساح، لتبدأ السخرية وعدم التصديق لكن قولت لهم خلوا بالكم منها لأنها هتبقى حاجة كويسة"، متابعا "دة كان يوم ميلادي واعتبرتها هدية ربنا ليا ولا يمكن أفرط فيها".

من قصة حوت المطبخ.. يأمل بركات أن تصبح رخامته تحمل نوعا جديدا

لم يتوقع صاحب ورشة الرخام أن يأتي إليه رد الدكتور عبدالله جوهر من خلال صفحته "الحفرجي" بمثل هذه السرعة وخصوصا لوجود 50 ألف متابع على الصفحة، فتفاجأ برد الباحث في مجال الحفريات الفقارية، بعد أن فحص الصور في نفس اليوم مساءً "دي حفرية لرأس حوت وخلي بالك منها ومقالش إنه عايزها، بس أنا قولت له لو هتستفيد بيها تعالى خدها وكنت بفكر في الوقت دة في الناس اللي لقوا حفرية المطبخ في إيطاليا لما لقوا حوت الأول من نوعه، وسموه حوت المطبخ علشان لو ماكانش حد اكتشفه كان هيبقى رخام مطابخ".

في صباح الثلاثاء الموافق 17 سبتمبر، كان جوهر وأستاذه بجامعة المنصورة الدكتور هشام سلام في ورشة بركات في شق الثعبان، يفحصون اللوحة الرخامية التي وصل طولها إلى 90 سم وعرضها 40 سم لكنها تحمل اكتشافا علميا ثريا، وبعد دقائق كان سلام عرف أن الحفرية هي لحوت يتضح بها كل معالمه وأعضاؤه بداية من فتحات الأنف والأذن وعظام الفقرات، لتسيطر الدهشة على بركات، ويقرر أن يهديها لمركز حفريات جامعتهم "اعتبرتها حسنة جارية وعلم يتنفع به رغم إنهم كانوا متخوفين إني أطلب فلوس بس وهبتها للعلم قبل حتى ما يقولوا إنهم عايزينها قولت لهم خدوها لو هتفيد أبحاثكم".

بركات: اتبرعت بالرخام لعلمائنا وفرحت لما قالوا هيسموا الاكتشاف "حوت بركات"

وسط إعجاب من المتخصصين في علوم الحفريات لموقف بركات، وخصوصا بعد أن قالا أمامه إن الحوت المكتشف سيكون نوعا جديدا بنسبة 60% كما أنه برمائي، فإن "سلام" قرر أن يطلق عليه اسم "حوت بركات"، ليظل ترديد اسم مكتشفه في الأوساط العلمية حول العالم بعد إثبات كونه فريدا "اندهشت جدا وفرحت بعد ماقالوا إن الموضوع هيتم نشره في مجلة ناتشر العلمية العالمية واسمي هيكون مع اسمهم، وبقيت خايف على الرخامة دي علشان لو الناس عرفوا إن عندي حاجة ترجع لـ40 مليون سنة هيعتبروها آثار وممكن يعتدوا عليها وأصريت إنهم ياخدوها في نفس اليوم".

ساعتان ونصف شرح خلالها هشام سلام اللوحة الرخامية بالتفصيل، وفسر لـ"بركات" أسباب تواجد مثل هذه الحفريات في الرخام وخصوصا أن تلك القطعة خرجت مثل سابقتها من منجم "الشيخ فضل"، موضحا أن شاطئ البحر في مصر قبل ملايين السنوات وصل إلى المنيا، ونتيجة تيارات المياه التي تحمل الرمال فإن الكائنات البحرية التي تموت تدفنها تلك الرمال، وبالتالي يصبح تحللها بطيئا نتيجة عدم وجود الأكسجين ومع مرور ملايين السنين يتحول الرمل إلى رخام وفي وسطه تقبع جثث الكائنات البحرية التي كثيرا ما يجدها بركات في الرخام هو ومنافسيه "طرق التعليم حتى لو بسيطة فهي بتفيد زي مثلا السوشيال ميديا.. مجرد منشور عرفت بيه تقرير علمي خلاني أعرف اتعامل إزاي مع الحاجات اللي بنشوفها كل يوم تقريبا ومش بنهتم بيها".

وتابع: "حتة الرخام دي في صنعتنا بنعتبرها مسوسة ومعيوبة والمفروض تترمي ولو ماكنتش قريت عن حوت المطبخ كنت هحتفظ بيها شوية وتترمي"، لكن تساؤلات كثيرة تلاقها صاحب ورشة شق التعبان حول "ليه اتبرعت بيها ببلاش وكان ممكن تجيب لك فلوس ياما إنت في أمس الحاجة ليها؟" ما جلعه يشعر بالإحباط لعدم تقدير الآخرين لقيمة علمية وهدف سامي كذلك الذي سعى إليه، إلا أن بركات كان اقتنع بما فعله "إحنا عندنا كوادر علمية كبيرة ناقص ندعمها ونكون معاهم، يعني لو بعتها لناس أجانب معارف للعيلة كانت هتسافر برة وتتقدر وممكن يسافر  باحث مصري مخصوص علشان يحضر بحث علمي ولا رسالة عليها هناك، ليه دة كله ما بلدي أولى وعندنا كوادر تقدر تشتغل عليها والأجانب لو عايزين ييجوا يبحثوا هنا تحت إدارتنا واسمنا"


مواضيع متعلقة