«مستعمرة الجذام» فى الإسكندرية: «كورة ودومينو.. وأيام بتِّعدى»

كتب: نرمين عصام الدين

«مستعمرة الجذام» فى الإسكندرية: «كورة ودومينو.. وأيام بتِّعدى»

«مستعمرة الجذام» فى الإسكندرية: «كورة ودومينو.. وأيام بتِّعدى»

عُزلة المخيم تُضفى على أرجائه لحظات طويلة من الصمت والهدوء، تتسلل تلك اللحظات إلى العنابر الخرسانية الصماء التى تعلوها لافتة «مستعمرة عبدالقادر»، أو مستعمرة الجذام كما يعرفها الأهالى.. وسط تلك البنايات غاب الأمل عن الوجوه الشاحبة المنعزلة عن العالم الخارجى، تقتلهم مشاعر الحسرة والألم، بعد أن باتوا ملفوظين من المجتمع لا لشىء إلا المرض، إلا أن اعتيادهم على حياة العزلة خلق أُلفة بينهم وبين المكان.

«الوطن» زارت المستعمرة التى تحتضن 27 نزيلاً من مرضى الجذام، لتتعرف على آلامهم وأحلامهم المنهكة من الصبر، ففى زاوية بعيدة وقف عبدالحميد دشيش، 69 عاماً، أحد المرضى، مرتكزاً على مقعد حديدى بكفيه المبتورتين يجاهد فى الوصول إلى المكان المفضل لجلسته اليومية: «اكتشفت المرض الذى نهش جسدى وتسبب فى بتر الكفين بعد 10 سنوات من المتابعة مع الأطباء، ففى البداية شعرت بوخز فى ذراعى اضطرنى إلى قصد الأطباء الذين أجمعوا على معاناتى من ضعفٍ عام، وبعد التردد على 16 طبيباً من تخصصات مختلفة طوال 10 سنوات، اكتشفت إصابتى بالمرض اللعين بعد أن تزوجت وأنجبت ثلاثة أطفال».

«عبدالحميد» أضاف باكياً: «لاحظت مضاعفات ظاهرية على جسدى، بدأت بضعف عام وعدم القدرة على ممارسة الحياة الطبيعية، وعقب اكتشاف المرض قررت الإقامة الدائمة بالمستشفى، يوم 15 أكتوبر عام 1980، لأبدأ حياة جديدة بعيدة عن العالم الخارجى»، وأوضح أن أسرته، المكونة من 4 أفراد، تزوره على فترات متقطعة، متابعاً: «أنا مش موصوم ولا ملفوظ زى الناس ما بتقول علينا، بالعكس عندى أسرة وأهل بيزورونى، ولكن أنا مجروح فى جسمى، لأنى مريض جذام من النوع العصبى؛ ضمن 3 فئات وهى الجذام الجلدى والدموى والعصبى، ولكن مرضى بالتحديد أدى إلى موت الخلايا العصبية فى الأطراف ونتج عنه بتر قدمى اليسرى والكفين، ورغم تماثلى للشفاء بعد تناول العلاج، فإننى فضلت العيش فى المستشفى لأن إحنا هنا عارفين عيوب بعض وراضيين بيها».

"عبدالفتاح": "لو خرجنا بره نموت.. وهنا بنلاقى راحتنا".. ومسئول: نوفر جميع الخدمات الترفيهية للمرضى

كمال عبدالكريم، 68 عاماً، مريض يعيش حالة من السعادة بعد زيارة زوجته التى فاجأته بشراء ملابس جديدة له، بالرغم من أنه يعلم علم اليقين أنه لن يرتدى تلك الملابس الجميلة لأنه لا يخرج من المستشفى إلا نادراً، مشيراً إلى أنه قصد الإسكندرية قادماً من سوهاج، بعدما اكتشف إصابته ببكتيريا الجذام، التى ظهرت أعراضها على الوجه واليدين، حينها كان عمره 24 عاماً، وقرر الاستقرار فى مستشفى عبدالقادر لتلقى العلاج دون رجعة: «مناعتى كانت ضعيفة، وعندما اكتشفت إصابتى بالمرض أهملت علاجه بسبب ضيق ذات اليد، حتى استقر بى المقام فى المستعمرة بعد تعرضى لمضاعفات كثيرة».

«أقضى يومى فى قراءة القرآن والصلاة والعبادات ولعب كرة القدم والدومينو»، قالها عبدالفتاح حسن، 60 عاماً، الذى دخل المستشفى منذ 10 سنوات، يحاول ألاّ يحرم نفسه من متعة الحياة بممارسة كافة أشكال الترفيه ومتابعة البرامج الحوارية والمسلسلات التليفزيونية: «شعرت بوجع فى الكفين، وتنميل فى الأطراف، وكنت أعمل سائقاً، فقصدت أحد الأطباء الذى وصف لى دواءً خاطئاً، تسبب فى احتجازى بغرفة العناية المركزة لأيام، وبعدها اكتشف الأطباء إصابتى بالجذام».

بعد عام كامل من تناول العلاج، تماثل «حسن» للشفاء، ما مكنه من قضاء أيام العطلات الرسمية فى منزل أسرته، إلى جانب مداومة زوجته على زيارته، ورغم ذلك فضل استمرار حياته فى المستعمرة: «بحب أعيش هنا، المكان مريح جداً ومهيأ ومريحنا، ولو خرجت ممكن أموت بسبب التنمر ونظرات الناس».

مصدر مسئول بمستشفى علاج مرضى الجذام فى الإسكندرية قال إن المساحة الكلية التى تضم المستشفى والمنطقة المحيطة تبلغ نحو 80 فداناً، منها 10 أفدنة لمبنى المستشفى، الذى جرى بناؤه كمعسكر لإسعاف ضحايا الحرب العالمية الثانية، لذلك سمى بالمستعمرة، وبعدها جرى تخصيصه لعلاج مرضى الجذام.

وأضاف المصدر، فى تصريحات خاصة لـ«الوطن»، أن البراح له أثر إيجابى على مريض الجذام: «ماينفعش يقعد فى عنبر مقفول عليه، لا بد أن تتوافر له الأرض الملائمة للتحرك وممارسة حياته بشكل يحسن مزاجه العام، فى حين يفضل الأغلبية من المرضى عدم الإقامة بالمستشفى وتناول العلاج بمنازلهم، وسط أسرهم».

ولفت إلى أن المستشفى يضم 9 عنابر، منها 3 فقط مشغولة بالنزلاء، بإجمالى عدد حالات 27 نزيلاً، وأن جميع الأجهزة التنفيذية حاربت المرض بتوفير العلاج المجانى الذى يُصرف بالتنسيق مع عيادة كوم الشقافة الجلدية التى تجرى الكشف الطبى، ثم توجه المرضى للمستشفى لصرف العلاج، كما يضم المستشفى كنيسة ومسجداً جرى بناؤهما حديثاً، بجانب العيادة الخارجية التى يتردد عليها المرضى، ومطبخ خاص يوفر وجبات يومياً للنزلاء، إلى جانب محرقة للمخلفات والنفايات تحت إشراف مديرية الشئون الصحية فى الإسكندرية، ونفى أن يكون المرض مُعدياً، كما يتردد، لافتاً إلى أن المستشفى يضم 30 موظفاً وعاملاً وطبيباً جميعهم أصحاء، فميكروب الجذام غير معدٍ، كما أن العاملين يتلقون تحصينات دورية لضمان عدم إصابة أى منهم بالمرض.


مواضيع متعلقة