محمود على البنا.. صوت أحبَّته الملائكة.. وآخر كلماته «رب توفنى مسلماً وألحقنى بالصالحين»

محمود على البنا.. صوت أحبَّته الملائكة.. وآخر كلماته «رب توفنى مسلماً وألحقنى بالصالحين»
هو من العشرة الكبار فى دولة التلاوة المصرية، التى نشرت القرآن الكريم فملأت به الآفاق بأصوات أحبتها الملائكة، استقبلته الدنيا بقبول حسِن، صوته لا تخطئه أذن، ملأ الدنيا بتلاوته وترتيله، ورغم مرور نحو 3 عقود على رحيله عن دنيانا، لكن تسجيلاته ما زالت تأخذنا إلى منطقة روحانية خاصة جداً، إنه الشيخ الباكى محمود على البنا.
«الوطن» وهى تحتفى بعلم من أعلام دولة التلاوة، فتشت عما لا يعرفه الناس عن الشيخ محمود على البنا، فالتقت نجله، أحمد، الذى سار على درب والده، وطالعت بعضاً من سيرة الشيخ كما روتها ابنته آمال، فكشفا عن أسرار لم تنشر ولم يعرفها إلا القليل.
نجل الشيخ الراحل: ربنا استجاب لدعاء والدته فحفظ القرآن فى العاشرة
بفرح مشوب بالخوف، تلقف الحاج على البنا، مُزارع قرية شبرا باص، مولوده «محمود»، موفياً بنذره، ليهبه لحفظ كتاب الله، ليضمن بقاءه.. تمضى الأيام بالصغير ويشتد عوده ويكبر ليتجاوز حدود «شبرا باص» شيئاً فشيئاً بزيارة المسجد الأحمدى بطنطا، رفقة أمه، وقد أسَرته فى هذه الدنيا الجديدة القُبَّة المذهبة أعلى المقام، ونورها الأخضر المُشع عبر النوافذ المعدنية المُعشقة، ونفحات البخور تُزكى المكان، وصوت القرآن ينساب إلى الأعماق، وقد تحلق الناس بمجالس الذِكر فى تناغم مُبهر.
فى منزل الشيخ الراحل بحى مصر الجديدة، يسترجع «أحمد»، الابن الذى اختار لنفسه أن يحيا فى جلباب أبيه، ويعتمر عمامته، أشياء حول زيارات جدته للمسجد الأحمدى: «هناك، كانت جدتى، تدعو الله أن يحفظ والدى، وأن يقبله خادماً لهذا المسجد، وتذهب فى ذلك نحو تأهيله حافظاً لكتاب الله، فى كُتاب القرية، فترفض فى ذلك ميله الطفولى لمشاركة أقرانه لعبهم، ما دعا والده لمطالبة شيخ الكُتاب، بأن يشدد عليه كى يداوم الحفظ، وما كان من شيخ الكُتاب إلا أن يُرسل فى طلبه، قُدامى الحفظة، للإمساك به، فيما هو يلعب، فيقتادونه إلى الكُتاب ويُضرب هناك، لبعض تقصيره، ومنذ ذلك اليوم انكب على حفظ القرآن بشكل يومى، حتى أتم حفظه كاملاً فى سن العاشرة تقريباً، وحينئذ رغب جدى فى إلحاقه بالمعهد الدينى الأزهرى، إلا أن عمره كان أصغر بسنة عن سن الالتحاق، فأشار البعض عليه بأن يُلحقه بأحد المعاهد الخاصة فى طنطا، فلا يشترط سناً بعينها، إلا أن يكون حافظاً للقرآن».
ذهب إلى الرئيس الراحل أنور السادات فى "القناطر" لاستعجال مشروع قانون نقابة القراء بعد تأجيله فى البرلمان وقدامى القراء امتنعوا عن القراءة للإذاعة عام 48 احتجاجاً على منح أبى 6 جنيهات راتباً شهرياً مثل رواتبهم
بصوت هادئ، ينضح بالخشوع، يقرأ «محمود» لزملائه فى «المعهد»، وقد انفتح ذهن «الصبى» على دولة التلاوة، فتكشفت له ذاته وما تهوى، فعرف القُراء و«الصيِّيتة»، واتبع سبيلهم، فى أول الأمر مُقلداً، فيمُد ويقصُر، ويتلو ويُجود.
أحمد البنا: أملانى نعيه كاملاً قبل وفاته بيوم واحد.. ودعا لأولاده وبناته وأحفاده بـ"الستر"
يقول «أحمد» الحاصل على بكالوريوس التجارة، ويُدير إحدى شركات المقاولات: «بدأ أبى يقتفى أثر مشاهير القُراء أينما ذهبوا، هو وبعض زملائه، فيستمع إليهم، ثم يعود آخر الليل ليُقلد من سمعه منهم، وكان بطنطا آنذاك، الشيخ محمد السعودى والشيخ شفيق أبوشهبة، وكان دائم التقليد لهما، وللشيخ محمد رفعت أيضاً، فتمكن من التقليد بقوة، حتى أنى أتذكر أنه كان يسهر مع الشيخ إبراهيم الشعشاعى، ابن الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى، فى ميدان التحرير، فقال له: يا إبراهيم أنا هَسمعك أبوك النهارده، فطرب الشيخ إبراهيم، كلما قرأ والدى مُقلداً أباه الراحل، ليطلب منه أن يُعيد إعجاباً بأدائه».
تمضى السنوات ويشتد الساعد، وتزداد النفس ثقةً فيما ذهبت إليه من تلاوة القرآن، ليتجه «محمود»، الطالب بمعهد طنطا الدينى، آخذاً بنُصح الشيخ حسين معوض، وكيل المعهد، إلى دراسة المقامات وإتقان القراءات، عند الشيخ إبراهيم سلام بالمسجد الأحمدى. يقول «أحمد»: «كما قلت، كان أبى يُقلد مشاهير القراء لزملائه، فيما يمر الشيخ حسين معوض، وكيل المعهد الدينى بطنطا، بعصاه الغليظة، ليهرب التلاميذ، ويبقى أبى وحده فى مواجهته، فينصحه بالذهاب لتعلم المقامات الصوتية، والقراءات العشر، عند الشيخ إبراهيم سلام، خاصةً بعد ملاحظة تراجعه فى موادٍ مثل الرياضيات، وكان الشيخ إبراهيم سلام رجلاً شديداً فى القرآن، فيشترط على تلاميذه أن يحفظوا القرآن أولاً، قبل أن يشرع فى تعليمهم القراءات، وما كان منه إلا أن قبل بالشيخ محمود حينما تلا عليه القرآن، فقال له: الله يفتح عليك، وتتلمذ على يديه نحو عامين، وقال له: إن مصنع النجوم فى القاهرة، وإنى أعطيتك ما عندى، فدرس أبى المقامات الصوتية على يد الشيخ درويش الحريرى، ونزح إلى القاهرة، واستقر فى شبرا، واشتُهر هناك، لقراءته فى المساجد والمآتم والاحتفالات الدينية».
يُضيف «أحمد»: «شاءت الأقدار أن يسمع بعض أعضاء جمعية الشبان المسلمين صوت أبى، فأخذوه ليعرفوه إلى صالح باشا حرب رئيس الجمعية، الذى عينه قارئاً للجمعية، وكان يلعب المصارعة والملاكمة هناك، لأنه كان يحب الرياضة، وأثناء الاحتفال السنوى للجمعية برأس السنة الهجرية، فى دار الأوبرا، وكانت تنقله الإذاعة المصرية، كان مقرراً لأبى أن يفتتح الاحتفال فى حضور محمد بك قاسم مدير الإذاعة المصرية، فرفض المذيع نقل صوت الشيخ محمود عبر أثير الإذاعة لكونه غير معتمد، وصُعد الأمر إلى صالح باشا حرب فى المقصورة، فذهب للتفاوض مع محمد بك قاسم مدير الإذاعة، بشأن قبول بث قراءة الشيخ محمود للقرآن فى الاحتفالية، إلا أن مدير الإذاعة رفض، فطلب منه صالح باشا اختباره فى الإذاعة لاعتماده لديها، وبعدها بأيام أخطرت الإذاعة أبى بموعدٍ لاختباره، ونجح فى اختبار الإذاعة سنة 1948».
آمال البنا: عدل فى عطائه بين أبنائه وبناته فمنح ابنتيه مسكناً خاصاً فى عمارته أسوة بالذكور
ويروى «أحمد» واقعة امتناع قُدامى القُراء فى الإذاعة عن القراءة اعتراضاً على تعيين «محمود البنا» أسوةً بهم على 6 جنيهات شهرياً، يقول: «التحق أبى بالإذاعة، ولم يتجاوز من العمر 22 سنة، وتم تخصيص 6 جنيهات راتباً شهرياً له، لكن الأمر لاقى اعتراض قُدامى القراء الذين كانوا يتحصلون على المبلغ نفسه، فامتنعوا عن القراءة ورفع الأذان فى الإذاعة، إذ كانت الإذاعة آنذاك لا تعرف التسجيلات، ما دعا مسئولى الإذاعة إلى استدعاء الشيخ محمود، ليقوم بهذه الأدوار، فكان يقيم يومه كاملاً لرفع الأذان، وتلاوة القرآن صباحاً ومساءً، وخلال أيام اقتحم وجدان الناس وطربت له أسماعهم، وبعدها تم تعيينه بمسجد عين الحياة، ثم انتقل إلى مسجد الرفاعى، ثم قارئاً بمسجد الإمام الحسين سنة 1955، ثم انتدبوه قارئاً فى مسجد سيدى أحمد البدوى، لتتحقق بذلك دعوة جدتى، وظل منذ 1955 وحتى 1980 منتدباً لمسجد سيدى أحمد البدوى، وبقى طيلة 25 سنة يذهب إلى طنطا كل يوم جمعة للتلاوة هناك، ثم يذهب إلى قريته شبرا باص لرؤية والده ووالدته، فيبيت ليلته ثم يعود للقاهرة فى اليوم التالى، وبعد سنة 1980، تم إنهاء انتدابه، وعاد قارئاً لمسجد الإمام الحسين حتى وفاته عام 1985».
تتلمذ على يد الشيخ إبراهيم سلام ونصحه بالذهاب إلى القاهرة وقال له: العاصمة مصنع النجوم
بكلمات مُوجزات، يصف «أحمد» أباه: «ربنا كتب له القبول فى الأرض.. تُقعد معاه تحبه.. يُدخل عليك تلاقى له هيبة».
استهوته التواشيح والإنشاد الدينى، فكان دائم الدندنة، إلا أنه لم يُقبل عليها، بحسب «أحمد»: «إيمانه الشديد بالتخصص منعه من تسجيلها، فما على المُطرب من مُعرب، كما كان يرى، على النقيض من التلاوة التى تخضع لقواعد وأصول».
ويمضى «أحمد» قائلاً: «سكن أبى بالإيجار فى شبرا فى مقتبل حياته، وقد اشترى آنذاك بيتاً لوالديه فى القرية، ثم شيَّد لنا هذا البيت بعد انتقاله من شبرا عام 1968 فى شارع الشيخ على محمود بحى مصر الجديدة، وإلى الخلف شارع الشيخ محمد رفعت وإلى جواره شارع الشيخ محمود أبوالعيون، وقد انتبه أبى لذلك فداوم القول: إحنا جايين قاعدين وسط المشايخ».
أدرك الشيخ الراحل، فى ابنه «أساس قوى واستعداد فطرى للموهبة، فعمل على تنميتها»، يقول «أحمد»: «نادانى فيما كنت أداوم الدندنة تأثراً بالقُرَاء وقال لى: وجعت دماغى فى الشقة رايح جاى.. اقعد كده واقرأ وسمعنى، فقرأت عليه، ثم أخذ يُعدل».
يعود «أحمد» لاستكمال ما بدأ، متحدثاً عن ذكرياته مع والده: «تعلمت منه الكثير، كنت أقرب الأولاد إليه، كنت أحب أن أوجد معه باستمرار، ولم أرفض له طلباً فى حياتى إلا حينما طلب منى قبل وفاته السفر إلى أبوظبى لإحياء ليالى رمضان هناك، فقلت له: آجى أعمل إيه، قالى: تيجى تقرأ، فقلت له: إن أعمالى تمنعنى، فابتسم وقالى: خلاص خليك، ولم أفهم مدلول ابتسامته، على الرغم من أن كل أبنائه كانوا يعون ماذا يريد منهم بنظرة منه».
يُضيف «الابن»: «كان أبى باراً للغاية بوالديه، حتى وفاة جدى عام 1977، وبعده جدتى عام 1979، فكان يذهب إليهما باحتياجات شهر رمضان كل عام، ولم يكن يخبرهما بسفره لإحياء الشهر الكريم فى الدول العربية والإسلامية لكى لا يحزنهما بابتعاده، فكانا يُنصتان إلى أثير الإذاعة حتى ما إذا استمعا إلى صوته هدأت نفسيهما، وما إن يكتشفا غيابه عن القراءة لبضع ليال، حتى يفطنا إلى سفره للخارج، فكانا يمرضان مرضاً شديداً لذلك، ويستمران على ذلك، حتى عودته، وكانا دائمى الدعاء له، حتى إنه كان يقول إن ما وصل إليه كان بفضل دعواتهما، وكان دائماً يردد أن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه فى إشارة للأقارب والأصدقاء، وكان دائم استقبال أقاربه وأبناء قريته ويذهب معهم لقضاء مصالحهم لدى حضورهم للقاهرة، كان خدوماً وودوداً، وكان يذهب لأقارب الأقارب من باب صلة الأرحام».
يُتابع «أحمد» الذى كان طفلاً فى المرحلة الإعدادية، حينما سجل أبوه المصحف المرتل والمجود فى القاهرة، وكان يحضر معه التسجيل: «حينما أراد بناء مسجد فى شبرا باص، ذهب فأخبر جدتى فأبلغها فرفضت، وقالت له إنه سيموت قبل إتمام البناء، وطلبت أن ينتظر حتى تموت هى أولاً ثم يشرع هو فى بنائه، حتى لا تشهد هى يوم وفاته، واستجاب لذلك حتى ماتت والدته، فبدأ فى إعداد رسومات وتصاميم وتراخيص بناء المسجد، حتى ما إن انتهى من وضع أساسات المسجد، فتُوفى قبل أن يكتمل بناء المسجد، ودُفن فى غرفة ملحقة خلف المسجد، وكان قد حصل على تصريح المدفن الخاص بشكل مباشر من الرئيس الراحل أنور السادات، إذ سعى فى حياته للحصول على تصريح هذا المدفن، لكى لا يُعطل الأمر بعد وفاته فى غياب التصاريح لذلك».
أراد بناء مسجد فى "شبرا باص" فرفضت والدته وقالت له إنه سيموت قبل إتمامه
مُبتسماً، شارد النظرة، مسترجعاً ذكرياته، يقول «أحمد»: «كان الابن الذى أسعد أبويه، والأب الذى أسعد أبناءه، كانت صلته بالله قوية، وكان يدعونا إلى أن نخشوشن بدعوى أن النعمة لا تدوم»، وتابع: «له جهد غير عادى فى إنشاء نقابة القُراء، فكان صاحب الجهد الأوفر، وكان يسهر ليالى طويلة فى السعى لذلك، وما كان من مجلس الشعب إلا أن تباطأ سنوات فى تمرير قانون النقابة، ما دفع أبى لزيارة رئيس مجلس الشعب، وأخبره الأخير بأن القانون لن يُناقش فى هذه السنة، فغضب أبى غضباً شديداً، وقال له: هخرج من هنا على سيدنا الحسين، هَلِم المشايخ وهقرأ عليكم ياسين، وقد خرج بصحبة الشيخ أحمد الرزيقى، رحمه الله، واتصل أبى بشقيقى اللواء شفيق، وكان يعمل آنذاك برئاسة الجمهورية، وسأله عن مكان وجود الرئيس أنور السادات، فأخبره أنه فى القناطر الخيرية، فتوجه إلى هناك مباشرةً، وذهب للقاء الرئيس أنور السادات الذى قابله، واحتضن أبى ورحب به واستمع إليه، فأمر الرئيس الراحل رئيس مجلس الشعب، بعمل جلسات استماع للقراء ومناقشة القانون، لولا أن حادثة اغتيال الرئيس الراحل تسببت فى تأجيل مناقشة القانون، ليُناقش ويُقر عام 83 وتؤسس نقابة القراء، فآثر أبى الشيخ عبدالباسط عبدالصمد على نفسه، فاختاره نقيباً ورضى بمنصب نائب النقيب لا لشىء إلا لتمرير المسألة سريعاً، فكان حريصاً على إنشاء النقابة لرعاية مصالح القُراء».
وعن فوضى تلاوة القرآن من جانب بعض دخلاء المهنة، يروى «أحمد»: «حضرت معه واقعة لأحد القُراء المشهورين فى الريف، ممن كانوا يتعمدون الخطأ لإطراب الناس، فكان يأتى بقراءات غريبة لم يُنزل الله بها من سلطان، فغضب وقال له: هو ده قرآن يرضى ربنا.. انزل ولا تقرأ بهذا الشكل، ما أسعد الحاضرين من علماء الأزهر، فأثنوا عليه، فعاتبهم: وانتوا ساكتين ليه؟!. ثم إنه كان يُشجع صغار القراء، ويحفزهم، ويُثنى على أدائهم بهدف التلاوة الصحيحة». يسكت «أحمد» لحظات ثم يُكمل: «ما زلت أسعى لقبول رضا والدى الشيخ محمود على البنا رغم رحيله، وأتلمس ذلك فى صلة رحمه من الأهل والأقارب، وكنت أزور خالاتى بعد وفاة أمى عام 1995، وكذلك أعمامى، وأذهب كل يوم جمعة لقراءة القرآن فى مسجده فى شبرا باص»، وأطلعَ «أحمد»، «الوطن» على مذكرات شقيقته «آمال» عن الوالد، وكانت قد أخذت على عاتقها كتابة سيرته فى كتاب باسمه بعد ذلك.
تروى «آمال»، الابنة الكبرى، ثانى أبناء «الشيخ»: «فرحته بنجاحى فى الثانوية العامة بلا حدود.. وكان الشيخ بفكره العصرى المتحضر يأمل لابنته مستقبلاً أكثر تطوراً بما يناسب أيامها المقبلة، بعد أن نالت المرأة فى ذلك العصر ما نالت من مناصب، فجاء نجاح آمال فى الثانوية العامة بتفوق مشجعاً للشيخ أن يخترق بنجاحها سياج تقاليد آل البنا ويلحقها بالجامعة»، وتُتَابع «آمال»: «حرص الشيخ على أن يعدل فى عطائه بين أبنائه وبناته فأقام فى عمارته تعلية ثلاثة طوابق خصصها لسكن أبنائه وبناته بأسرهم الجديدة بعد الزواج، متجاوزاً بذلك العرف السائد فى موروثاته الريفية فى أن تنتقل الابنة إلى بيت زوجها، ورأى أن يهب لكل واحدة من ابنتيه مسكناً خاصاً فى عمارته لتبدأ فيها حياتها الزوجية أسوة بالإخوة الذكور هبة منه فى حياته».
يعود «أحمد» ليروى أيام أبيه الأخيرة: «كنت فى الثلاثين من العُمر، يوم عاد أبى مريضاً من أبوظبى، بعد أن أحيا ليالى رمضان هناك عام 1985، ولم يكن يشكو أى شىء قبل سفره، ثم أشرت عليه بعد عودته بعمل بعض الفحوصات، وبعد إجراء الفحوصات بمستشفى السلام الدولى بحى المعادى، أخبرنا الأطباء بأن الحالة متدهورة، وتعجبوا لدى علمهم بتمكنه من إحياء ليالى شهر رمضان فى أبوظبى، لاكتشافهم إصابة رئتيه بالسرطان بشكل كامل، وتضخم الكبد كذلك، وبعدها بأيام وصف الشيخ محمود على البنا جنازته لأبنائه وصفاً دقيقاً كما رأيناها نحن بعد ذلك، وكان مطمئناً وقت احتضاره، وأخذ يُبلغنا بوصيته: «يا ولاد.. للذكر مثل حظ الأنثيين، أنا معليّيش ديون لحد». فكان كَمَن «تتنزل عليه الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون»، وغاب فى احتضاره ثم استفاق ليُتمتم قائلاً: «إيه اللى جابّنى هنا، أنا كنت فى الأرض الخضرا، وبيتى هناك.. أهلاً وسهلاً مرحباً وسعوا يا أولاد.. ثم نادانى قبل الوفاة بيوم واحد: تعالى يا أحمد، هات ورقة وقلم واكتب. انتقل إلى رحمة الله تعالى فقيد الإذاعات العربية والإسلامية القارئ الشيخ محمود على البنا. فأملانى نعيه كاملاً، وطلبت منه أن يدعو لأبنائه، فقال: ربنا يستركم ويستر أولادكم».
تتذكر «آمال» آخر كلماته فى الدنيا فتقول: «مَد الشيخ يده يصافح أبناءه يداً بيد ودعا لهم جميعاً بأن يثبت الله قلوبهم على دين الإسلام حتى يلاقوا ربهم، وقال مودعاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد لحظات طلب من ابنه أحمد أن يقرأ له من المصحف سورة يس، فبدأ يتلو حتى وصل إلى آية.. (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون)، فلم يقو على ذلك، وغلبته دموعه.. ثم طلب منَّا أن نكتب - اللهم إنى قد بلغت اللهم فاشهد وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.. ثم رفع عينيه إلى السماء وهو يقول: رب توفنى مسلماً وألحقنى بالصالحين»، وتختتم «آمال»: «لم يكن حديثه مع أبنائه وداعاً بل جعله الشيخ استئذاناً فى الانصراف والانسحاب من حياتهم إلى حياته الجديدة فى الآخرة وجعل غيابه ورحيله عنهم امتثالاً لأمر ربه».