«التضخم VS الدين المحلى».. السياسة النقدية على مفترق الطرق
«السياسة النقدية» تحتل الصدارة فى هيكل السياسات الاقتصادية
تحتل «السياسة النقدية» الصدارة فى هيكل السياسات الاقتصادية، وخاصة خلال العقود الأخيرة، كما أنها لعبت دوراً بارزاً فى تحقيق النهضة الاقتصادية لكثير من الدول المتقدمة، إذ تمثل محور السياسة الاقتصادية الكلية، كما أصبحت السياسة النقدية هدفاً أساسياً تسعى وراءه البنوك المركزية فى كل دول العالم لتحقيق الاستقرار فى الأسعار، حتى وإن أثرت على معدلات النمو فى كثير من الأحيان.
وتعتمد السياسة النقديّة على أسلوبين، وهما «الانكماشية» التى تعمل من خلالها على رفع أسعار الفائدة، وتهدف إلى الحد من ارتفاع معدلات التضخم والحفاظ على المستوى العام للأسعار، بينما تؤثر سلباً على غياب الحافز لدى الراغبين فى الحصول على القروض، وبالتالى تقلص من التوسع فى الاستثمار، فضلاً عن رفعها فوائد الدين المحلى بشكل كبير، وهو ما تعانى منه كثير من الدول التى بدأت أولى خطواتها فى برامج الإصلاح الاقتصادى، لتحقيق معدلات نمو مرتفعة.
فيما يتمثل الأسلوب الثانى فى السياسة النقدية التوسعية التى تهدف إلى الحد من البطالة، والركود الاقتصادى، وذلك من خلال خفض أسعار الفائدة وشراء الأوراق المالية، لزيادة السيولة، مما يشجع على زيادة الإقراض، ويزيد من إنفاق المستهلكين، والشركات، ويخفض من تكلفة الدين المحلى، وهو ما تلجأ إليه كثير من دول العالم فى ظل تباطؤ النمو العالمى، فيما يؤثر خفض الفائدة سلباً على زيادة المعروض النقدى وبالتالى ترتفع معدلات التضخم ويزيد المستوى العام للأسعار.
"القاضى": الإنتاج والاستثمار "روشتة" التضخم والدين المحلى.. و"المغربى": سياسات "المركزى" تتسم بالمرونة.. والاقتصاد يمر بحالة مستقرة
لذا تمر السياسات النقدية دائماً بمأزق يتمثل فى ما إذا كانت تتمكن من المحافظة على معدلات التضخم ورفع تكلفة الدين المحلى، أم تضحى بارتفاع مستويات التضخم وتحد من تكلفة الدين؟
على الصعيد المحلى اتجهت مصر خلال السنوات الأخيرة إلى اتباع سياسة انكماشية نتيجة للاضطرابات السياسية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار الفائدة إلى 18.75% للإيداع، و19.75% للإقراض فى يوليو 2017 وذلك للحد من ارتفاع التضخم الذى تخطى حاجز 30% عقب تحرير سعر الصرف.
ويرى الخبراء أن رفع أسعار الفائدة أثرت على زيادة تكلفة الدين العام المحلى وارتفاعه لـ3.8 تريليون جنيه بنهاية سبتمبر الماضى، مقابل 1.2 تريليون جنيه فى 2011، مما يشير إلى أنه على الرغم من تأثير السياسة النقدية فى خفض معدلات التضخم، إلا أنها قد رفعت تكلفة الدين المحلى بشكل كبير، لذا تكمن لعبة السياسة النقدية فى مدى مرونتها للتصدى للمتغيرات الاقتصادية، وتحديد أولويات الدولة من استقرار الأسعار والحفاظ على تكلفة الدين المحلى عند مستويات مقبولة.
وتمر السوق المصرية حالياً بحالة من الضغوط الموسمية التى تؤدى إلى تذبذب معدلات التضخم صعوداً وهبوطاً خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث ارتفع المعدل السنوى للتضخم العام والأساسى إلى 14.4% و9.2% على التوالى فى فبراير الماضى، مقابل 12.7% و8.6% فى يناير الماضى.
وقد يرجع الارتفاع إلى دخول الموسم الرمضانى وزيادة الإقبال على المنتجات الغذائية، كما أنه من المرتقب أن تخفض مصر الدعم عن الوقود والكهرباء بنهاية يونيو القادم، ما يمهد لارتفاعات متتالية مقبلة على أسعار المستهلكين، الذى قد يؤدى إلى رفع أسعار الفائدة مرة أخرى ولكن لفترة مؤقتة لحين زوال آثار الضغوط التضخمية الموسمية.
وعلى الرغم من الضغوط التضخمية إلا أن توقعات السوق تتجه نحو خفض أو تثبيت معدلات الفائدة عند ذلك الحد، خاصة بعد الارتفاع الذى يمر به الدين المحلى، خلال اجتماع لجنة السياسة النقدية القادمة فى 23 مايو المقبل.
وتؤكد النظريات صحة تكامل السياسات الاقتصادية وتأثير العوامل كل منها على الأخرى، فعلى الرغم من المحاولات الشاقة التى تتبعها السياسات الأخرى والتى لا يمكن إغفالها مطلقاً، إلا أنه لا بد من بذل مزيد من الجهود لعلاج الأزمة من جذورها، انطلاقاً من السياسة التجارية من خلال الزيادة الحقيقية فى معدلات الإنتاج والتصدير، وبالتالى حدوث استقرار فى المستوى العام للأسعار، إضافة إلى زيادة الناتج المحلى الإجمالى الذى ينتج عنه انخفاض فى عجز الموازنة العامة، التى ستصب فى خفض الطلب على الدين العام، مروراً بالسياسة المالية التى تسعى فيها وزارة المالية جاهدةً للبحث عن مصادر تمويل جديدة للموازنة العامة، واستخدام سبل مختلفة للحد من التهربات الضريبية ودمج القطاع غير الرسمى ضمن المنظومة الرسمية، للحد من عجز الموازنة.
وتأتى الولايات المتحدة كمثال لتضافر السياسات الاقتصادية وعدم إلقاء العبء الأكبر على السياسة النقدية، فعلى الرغم من ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى لديها، والذى وصل إلى 109.45%، إلا أن اقتصادها من أقوى الاقتصادات فى العالم.
أما عن معدلات التضخم فتتسم بالاستقرار عند مستويات مثالية، حيث وصل معدل التضخم عام 2018 إلى 1.9% مقارناً بعام 2017 الذى سجل 2.1%، ويرجع هذا الاستقرار إلى إدارة الفيدرالى الأمريكى سياسته النقدية عن طريق التحكم فى مستوى أسعار الفائدة قصيرة الأجل والتأثير على استقرار تكلفة الائتمان بشكل عام فى الاقتصاد.
ويعتبر استقرار تكلفة الائتمان عند مستويات متدنية أحد أهم الأمور التى يراعيها الفيدرالى الأمريكى عند وضع السياسات النقدية للدولة، حيث يرى أن الإبقاء على معدلات منخفضة من تكلفة الائتمان يساعد على رفع معدلات الاقتراض، الأمر الذى يؤثر بشكل مباشر فى ارتفاع معدلات الاستثمار، وبتحقيق معدلات مرتفعة من الاستثمار لن تتحرك معدلات التضخم للأعلى، إضافة إلى الحد من معدلات البطالة.
ويكمن سر قوة الاقتصاد الأمريكى فى قوة سياساته التجارية التى تعتمد على الزيادة المستمرة فى معدلات الإنتاج لتلبية كل احتياجات السوق، والزيادة من معدلات التصدير للخارج، وهو ما يعود بالإيجاب على قوة الاقتصاد، وييسر من مرونة وقرارات الفيدرالى.
ومن جانبه قال أشرف القاضى، رئيس المصرف المتحد، إن هناك علاقة طردية بين معدلات الفائدة وتكلفة الدين، فكلما ارتفع سعر الفائدة زادت تكلفة الدين، مشيراً إلى أن معدلات الفائدة المرتفعة فى مصر أثرت سلبياً على ارتفاع تكلفة الدين.
وأضاف «القاضى» أن الفترات الماضية شهدت معدلات فائدة مرتفعة دفعت السياسة النقدية لرفع معدلات الفائدة للسيطرة عليها، مشيداً بانخفاض معدلات التضخم التى سجلت 13%، متوقعاً الإبقاء على سعر الفائدة كما هو دون تغيير فى اجتماع لجنة السياسة النقدية القادم.
وذكر «القاضى» أن الدول التى تتمتع باقتصاد قوى يعتمد على معدلات الإنتاج والتصدير المرتفعة، لا تتأثر بمعدلات الفائدة والدين المرتفعين، فى ظل تمتع المستهلكين برشادة اقتصادية تضمن استقرار معدلات التضخم عند مستويات منخفضة، كما هو الحال فى الولايات المتحدة.
وأوضح أنه على الدولة الاستمرار فى الدور الرقابى والحفاظ على مستويات الاستيراد الآمنة وتشجيع الاستثمار لتجنب ارتفاع معدلات التضخم، الأمر الذى يُجبر السياسة النقدية على رفع معدلات الفائدة.
وعقب عاكف المغربى، نائب رئيس بنك مصر، أن الاقتصاد المصرى لم يمر بأزمة حالية، خاصة فى ظل التوقعات بخفض أو تثبيت أسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة بعد وصول التضخم إلى مستوياته الآمنة، موضحاً أن قرارات البنك المركزى تتسم بالمرونة، كما أنه يعمل جاهداً لتحقيق التوازن بين انخفاض معدلات التضخم والحفاظ على المستوى العام للأسعار، وبين عدم ارتفاع تكلفة الدين المحلى للحد من أعباء الدولة.
وأضاف أن قرارات «المركزى» برفع أسعار الفائدة خلال عام 2017، كانت حتمية للحد من الضغوط التضخمية التى كان يمر بها الاقتصاد آنذاك، خاصة أن السياسة النقدية تضع مصلحة المواطن أولاً، مستهدفة تحقيق أعلى مستوى لرفاهيته من خلال الحد من ارتفاع المستوى العام لأسعار المنتجات والخدمات.