حكايات من دفتر مدمنات «العباسية».. إما العلاج أو الجنون

حكايات من دفتر مدمنات «العباسية».. إما العلاج أو الجنون
- الإدمان
- مستشفى العباسية
- مدمنات العباسية
- الأمراض النفسية
- عيادة إدمان السيدات
- مستشفى الأمراض النفسية
- تعاطي المخدرات
- الإدمان
- مستشفى العباسية
- مدمنات العباسية
- الأمراض النفسية
- عيادة إدمان السيدات
- مستشفى الأمراض النفسية
- تعاطي المخدرات
ساحة واسعة تغطى سماءها أوراق شجر كثيف يحجب أشعة الشمس عن الحاضرين، تحتضن أسرار وحكايات سيدات دخلن دوامة الإدمان منذ سنوات طويلة، يجلسن على مقاعد خشبية، لا تعرف كل منهن الأخرى، ولا يفضلن الكشف عن هويتهن، أو يبحن بحديث يُعرّى قصص حياتهن ويفضح خسائرهن الكبرى وآلامهن التى تتخفى وراء دخان سيجارة. بعد سنوات طويلة من المعاناة ومن طلب النجدة من واقع مأساوى كانت المحطة الأخيرة فى العيادات الخارجية بمستشفى العباسية للأمراض النفسية، جئن بإرادتهن لطلب العلاج والخلاص.
ضحايا ظروف قاسية وعوامل بيئية ومجتمعية دفعتهن لهذا الطريق الأصعب والأخطر على حياتهن وحياة أطفالهن من بعدهن، يكرهن لحظة خروج المخدر من أجسادهن فتتحول الضحكات الزائفة لدموع تنهمر من شدة الندم وبكاء هستيرى على ضياع أرواحهن فى دخان سيجارة أو حقنة مميتة أو جرام بودرة يترك أثراً لا يزول، يتشبثن بأمل ضعيف بحثاً عن طريق النجاة لكسب ثقة صغارهن مرة أخرى والأهل والمجتمع، وطى هذه الصفحة المؤلمة من صفحات أعمارهن، واستبدالها بأحداث جديدة وذكريات تمحو لحظات انكسارهن وضعفهن أمام مخدر استنزف صحتهن وأموالهن.
"الوطن" فى عيادة إدمان السيدات بمستشفى الأمراض النفسية
منذ الساعات الأولى من صباح كل ثلاثاء، يتوافدن على شباك التذاكر لحجز رقم ثم الانتظار حتى يؤذن لهن بالدخول للكشف فى مستشفى العباسية، وما بين الفترتين تضيع الكثير من الساعات وتُخلد العديد من التفاصيل التى يكون أبطالها عادة أطفالهن الأبرياء، الذين لا يعرفون لماذا أتوا وكم من المرات سيكتب عليهم المجىء إلى هنا.. يلعبون معاً ويتحركون بحرية كأنهم تم إطلاق سراحهم من سجن المخدرات التى تلتف كحبل المشنقة حول صدورهم مرغمين على استنشاقها بناء على رغبة الأم.
تبعد «سارة» عن والدتها بخطوات والحذر يملأ قلب الصغيرة، تتحدث مع فتاة عن سبب استيقاظها مبكراً فى نفس توقيت المدرسة وتحول بوصلتها من الحصة الأولى لقطع تذكرة للعلاج، بينما يتأمل «آدم»، طفل فى الرابعة من عمره، وجوهاً غريبة عنه يتتبع نظراتها وضحكاتها ودخان سجائرها، يظهر على ملامحه البريئة القلق والخوف، تكاد تبكيه المشاهد، حتى وقعت عينه على «هالة»، سيدة تبعد عنه بخطوات، تحتضن طفلتها بيد، بينما تمسك سيجارتها بالأخرى، تحكى أنها عرفت طريق الإدمان منذ 14 عاماً على يد زوجها الذى لم يترك نوعاً إلا وجربه بداية من الحشيش مروراً بالبانجو والبرشام حتى البودرة، فسلكت نفس طريقه حتى تساقطت أسنانها واخترق السرطان رئتها وهدد صحتها، ظلت تفرط فى التعاطى خاصة بعد رحيل شقيقها الوحيد الذى كان يحنو عليها: «موته كان صدمة كبيرة خلتنى أدوس جامد وأفترى»، ورغم كل هذه الخسائر لم تفكر فى ترك هذه السموم القاتلة، حتى بدأت صرخات طفليها تتعالى بالرجاء للإقلاع عن هذا الطريق، إضافة إلى إصابة والدتها بجلطة أقعدتها عن الحركة حزناً عليها، لم تسمع إلا صوت المخدرات، ولم تر إلا سرنجة الجرعة: «فيه أكتر من إنى كنت بخلى بنتى تجيبلى الطبق عشان أشد».
كانت صاحبة الـ38 عاماً تتعاطى 4 شرائط ترامادول يومياً ونوعاً آخر أقل سعراً إضافة إلى الحشيش والبانجو، واستفاق زوجها مؤخراً وبدأ يقنعها بالذهاب للعلاج، محاولات متكررة لم تنجح إلا الأخيرة منها: «قالى كذا مرة وكنت بقوله لأ لحد ما دكتور هنا أقنعنى».
"رانيا": "كنت باشحت تمن جرام البودرة" و"نجوى": "اتجوزت 5 مرات عُرفى ومرة شرعى عشان أجيب فلوس"
تتحدث بصعوبة شديدة بسبب ما أصاب أحبالها الصوتية، تخجل من فتح فمها باستمرار حتى لا تكشف عن أسنانها التى دُمرت ولم يتبق منها إلا أشلاء بسيطة نتيجة المخدرات، تتذكر اليوم الأول لها داخل العيادة محاولة أن تظهر انتصاراتها الصغيرة، مضيفة: «رُحت رميت كل البرشام من عندى وابتديت علاج».
توقف زوجها عن العمل بعد أن كان «سمسار تذاكر سياحية»، بسبب تلقى العلاج، وتكفلت والدتها بالإنفاق عليهم جميعاً حتى لا تعود مرة أخرى للتعاطى، تأتى للعيادة كل أسبوعين من منطقة بشتيل بإمبابة، تخفى عن الأهل والجيران مشوارها الدائم: «بنتى فى 3 ابتدائى وابنى فى أولى إعدادى نفسيتهم تعبت بسببى»، عصبية مفرطة أصابت الصغار بسبب الحياة التى افتقدت الحنان والاهتمام والرعاية، وتغيبت الأم والأب ولم يبق أمامهما سوى البكاء: «حاسة بالذنب ناحيتهم عشان ضيعتهم بإيدى»، على مدار عامين تتلقى فيهما العلاج انتكست مرة واحدة وعادت لاستكماله من أجل صغارها.
تتذكر مشاهد قاسية تعرضت لها وهى مغيبة فى دوامة المخدرات إذ قررت فى يوم أن تذهب إلى القسم تطالب بحبسها، فى البداية منعها الضابط وبعد إصرارها ومد يديها عليه كشف عن بطاقتها ووجد عليها «شيك» وأمر بحبسها لمدة شهر: «مرة تانية خرجت الشارع ملط والجيران لحقونى».
حكاية أخرى مغلفة بالألم والأمل، بطلاها «إنجى» و«أحمد».. فتاة عرفت طريق الإدمان وتوغلت فيها، وشاب جاء ليلعب دور المنقذ بعد قرار خطبتها ومساندتها فى محنتها وإقناعها بالعلاج لبدء صفحة جديدة بعد التعافى، يجلسان على حافة مقعد خشبى فى انتظار الدخول، تحكى «إنجى»، 19 عاماً، أنها ظلت لمدة عامين متواصلين تتعاطى بودرة وتتعرض لمواقف بشعة وتجازف بحياتها فى وحل الخطر من أجل الحصول على الجرعة: «دماغى كانت بتشتغل فى حاجات كتير مش كويسة عشان عايزة الحاجة دى».
صديقة سوء «جرّت رجلها» فى هذه السكة المظلمة حتى فقدت القدرة على العودة فى ظل غياب الأهل، أقنعتها بأن تأخذ نصف قرص ترامادول فى ليلة العيد حتى تسهرا للصباح وتعودت عليه حتى فقدت السيطرة على نفسها وبدأت تبحث عنه وتتعرف على «الديلر»، وتضحى بأشياء فى مقابل الحصول على جرام بودرة: «كانت بتدينى فى الأول بدون مقابل بعد كده طلبت منى فلوس»، كانت تنفق 200 جنيه يومياً للحصول على جرام واحد، اضطرت لسرقة والدتها وآخرين حتى توفر المبلغ يومياً: «ولازم أضربه بالليل عشان أفضل طول النهار نايمة»، ذهبت لوكر المخدرات فى منطقة السحر والجمال على طريق الإسماعيلية - القاهرة الصحراوى بنفسها حتى تحصل على أى كمية: «لما لقيت نفسى باضيع بدأت أفكر فى العلاج».
يوم من عمر "مدمنات العباسية": "المخدرات دمرت حياتنا"
تتذكر يوماً قبل شهرين تعرضت فيه لوعكة صحية جعلتها تفقد الحركة، فذهبت للمستشفى لطلب العلاج، بدأت تأخذ جرعات الدواء بجانب جرعات البودرة، حذرها الجميع حتى لا تصاب بالجنون: «قالولى لو فضلتى تتعالجى وتضربى هتتجننى فبطلت العلاج».
ظهر فى حياتها «أحمد»، جارها القديم، الذى أعجب بها وحاول التقرب منها والسؤال عنها، فاعترفت له بسرها الغائب عن أعين الجميع، تقبلها وقرر الوقوف بجانبها حتى تتعافى: «أنا كنت مجرب وتعافيت من سنتين فحاسس بيها»، يقولها بعد أن أصر على خطبتها ودعمها فى رحلة علاجها، يذهب معها للعيادة ويتابع تعليمات الطبيب وينفذها، يتحدث إليها باستمرار مؤكداً لها أنها ستشفى ولحظات الضعف والانكسار ستتبدل بالقوة: «عشت نفس الحالة دى وعمرى ما هتخلى عنها».
لأول مرة تعيش الفتاة العشرينية بدون مخدرات لمدة 10 أيام متواصلة بفضل الحب الذى غمرها وبدّل حياتها وعوضها عن غياب الأهل: «مسحت كل الأرقام وقطعت علاقتها بالناس اللى بتشرب»، يشعر بالسعادة لمساعدة أى شخص على التعافى تماماً باصطحابه لمستشفى العباسية الذى تعالج فيه وعمل به فترة: «ودى كمان خطيبتى يعنى سعادتى زيادة، وده مرض مش بإيدينا وله علاج».. كان يتعاطى المخدرات وهو فى سن 12 عاماً، وأقلع عن هذا الطريق منذ عامين وشهرين متمنياً الشفاء لكل شاب دخل هذا الطريق: «سبت تعليمى بسبب المخدرات وبحاول دلوقتى أعوض اللى فاتنى».
"هالة": "وصلت إنى عايزة أتحبس وخليت بنتى تجيبلى الطبق عشان أشِد.. ومرة خرجت الشارع ملط والجيران لحقونى"
أم لثلاثة «صبيان»، عرفت طريق الإدمان مؤخراً على يد شقيقة زوجها وتمادت فيه 5 سنوات ثم علم زوجها وأخبر أهلها الذين تحملوا علاجها وعادت مرة أخرى لبيتها لكنها انتكست وعادت هذه المرة على يد زوجها الذى يتعاطى البرشام فلم يكن أمامها سوى الاستسلام حتى نشبت «خناقة» بينهما وصلت للسباب والإهانة: «اتخلى عنى وإخواتى جابونى النهارده عشان أتعالج».. تقولها «عبير» التى تجلس فى ركن بعيد عن أعين الناس ويداها على خدها تبكى حزناً على نفسها وأبنائها الثلاثة: «ابنى الكبير عنده 18 سنة مكسوفة منهم وزعلانة على نفسى».. تشتكى من قسوة زوجها الذى ساهم بشكل كبير فى دخولها هذا النفق والتشهير بها بعد وقوعها فى فخ المخدرات: «كنت بروح أشترى الشريط بـ35 جنيه من الصيدلية لحد ما أدمنته»، تحكى أن زوجها كان يتهمها بالجنون ويقسّى قلب أولادها عليها: «حمّلنى المسئولية كلها وطردنى»، يرافقها شقيقها وزوجته وعمها، الكل يساندها ويطالب من الطبيب المعالج حجزها للتعافى تماماً والعودة لأولادها مرة أخرى.
وبينما تجوب «آية» ساحة الانتظار بدفتر فى يدها به جواب حجزها لتلقى العلاج بداخل المستشفى ثلاثة أشهر متواصلة: «أخيراً مش هشوف الناس تانى»، جملة لم تغادر فم الفتاة العشرينية التى سئمت من وحشية المجتمع الخارجى الذى لم يكف عن أذيتها والقسوة عليها بسبب أنها دخلت وكر الإدمان على يد صديقة لها وبدأت تتعاطى منذ 10 سنوات: «حياتى ادمرت وياما سبت البيت ومشيت»، كانت تقضى ليالى على الرصيف وسط شوارع مليئة بالذئاب البشرية التى لم ترحم جسدها، تنهش فيه دون رحمة وهى تصرخ غير قادرة على الدفاع عن نفسها: «اتعرضت للاعتداء الجنسى والتحرش كتير»، كانت تعمل فى كوافير حريمى لتدبير ثمن المخدرات، تُعرض حياتها للخطر حتى تحصل على الجرعة: «زهقت من البشر جيت هنا عشان ماخرجش تانى غير إنسانة أفضل، عايزاهم ينسونى لحد ما أبقى حاجة تانية».
8 سنوات ضاعت من عُمر «رانيا»، 28 عاماً، فى تعاطى المخدرات، استفاقت متأخرة بعد رحيل زوجها قبل 5 أشهر فى السجن وتركه ثلاث فتيات فى رقبتها وطفلاً رضيعاً على كتفها، قررت الذهاب بكامل إرادتها للعلاج: «مش عايزة الناس تقول لأولادى أمكم ماتت بالبودرة كفاية أبوهم مات فى السجن»، أصيبت بفيروسين بسبب استخدام السرنجة الواحدة لمرتين وثلاث مما تسبب فى تلوث دمها، تتلقى العلاج بجانب أدوية الإدمان: «لو وقفت العلاج أسبوع أموت»، تعيش فى منطقة عين شمس بمفردها، تسيطر عليها الوحدة رغم وجود والديها وشقيقها: «زى قلتهم، أمى متجوزة وأبويا بتاع نسوان»، كانت تتعاطى أثناء حملها ورضاعتها تنفق يومياً 400 جنيه على البودرة تحصل عليها عن طريق «الشحاتة»، تحلم بحياة أفضل لصغارها متمنية أن تدفن ماضيها مع آخر يوم لها فى العلاج لبدء صفحة جديدة للأبد.
"إنجى": "صديقة لى جرّت رجلى للسكة دى.. بدأت بنصف قرص ترامادول ثم أصبحت مدمنة.. وخطيبى جابنى هنا عشان أتعالج"
وراء كل فم حكاية ترويها الملامح الذابلة ووراء كل صوت عالٍ ودخان سيجارة قلب سئم من جرعات المخدرات، وروح تتمنى الشفاء وذاكرة تحلم بنسيان اللحظات الصعبة القاسية، وجسد يبحث عن راحة البال والصحة الغائبة بين طيات السرنجة والبرشام، تنظر «نجوى» لطفلها الصغير «آدم» يتجول حولها وفى يدها ورقة تحمل رقم دخولها، تشرد بذاكرتها لليوم الأول الذى عرفت فيه طريق الموت، حين تعرفت على شاب وهى فى العشرين من عمرها فتزوجته «عُرفى» وفتح لها أبواب جهنم بأول سيجارة حشيش وشد جرام بودرة: «15 سنة بطلت فيهم 5 مرات واتحبست فيهم 15 شهر وانضربت واتهنت وشفت الذل».
تزوجت 6 مرات جميعها «عُرفى»، عدا واحدة شرعى، ذهبت للعمل فى السعودية فى كوافير وعرفت رجالاً كُثراً، كانت زيجاتها من أجل الحصول على المال لتعاطى المخدرات، لم تكن تدرى بنفسها، تتعرف على تجار مخدرات ومافيا وتذهب لوكر الإدمان بنفسها: «طلع عليا فى يوم 5 رجالة ضربونى وقررت أبطل عشان ابنى».. شقيقتها لم تتركه معها لحظة واحدة خوفاً عليه منها.. «دى ممكن تبيعه بتذكرة بودرة»، تقولها شقيقتها الكبرى التى ترافقها هى وزوجها على أمل أن تكون هذه المرة الأخيرة، مؤكدة أنها خريجة كلية سياحة وفنادق، وتتقن لغتين أجنبيتين، تقسم «نجوى» بأن هذه ستكون هذه نهاية رحلتها مع التعاطى محاولة إقناعهم بصدق حديثها وجديتها حتى تنادى عليها الممرضة للدخول فتقفز من مقعدها متوجهة نحو باب العيادة لتختم اليوم باعتبارها آخر اسم فى الكشف.
موضوعات متعلقة