الصراع الدولى على ليبيا

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

فى لحظات الأزمات الساخنة تسارع الدول الكبرى، ذات التاريخ الاستعمارى، بالدعوات إلى وقف القتال حرصاً على المدنيين، ويصدر كبار المسئولين مطالبات بعدم التصعيد والتهدئة بدون تقديم وسيلة أو مخرج ينهى أسباب الصراع ذاته، وفى كل الأحوال يتم توظيف مبدأ حماية المدنيين، باعتباره واجباً مقدساً، وفى الواقع يحدث العكس تماماً، وما يجرى فى سوريا واليمن ومن قبل العراق يثبت مثل هذا الزيف والخداع، وأحداث ليبيا الآن مثل آخر، فقد بدأ الجيش الوطنى الليبى حملته العسكرية لتطهير طرابلس، عاصة البلاد من الميليشيات والجماعات المسلحة التى عاثت فيها فساداً وظلماً، يعرفه كل المسئولين فى حكومة الوفاق الوطنى برئاسة فايز السراج، ويعرفه أيضاً المبعوث الدولى غسان سلامة، الذى شرح مثل هذه الممارسات الشائنة فى كثير من إحاطاته أفاض فيها أمام أعضاء مجلس الأمن الدولى، كما يعرفها أيضاً مسئولون كبار فى الدول الكبرى التى لها وجود استخباراتى قوى فى ليبيا وفى طرابلس تحديداً، ولكنها الرغبة فى الظهور كمن يحرص على سلامة المدنيين ويدفع عنهم كل أذى، فى حين أن هذه الدول الكبرى نفسها هى التى بادرت بمثل هذا الأذى وما زالت تمارسه وتذكى نيرانه بين حين وآخر.

لا شك أن حماية المدنيين أمر واجب على كل مسئول لديه بصيرة، ولديه ذرة من ضمير، ولكن أين كانت هذه المسئولية وهذا الضمير الحى حين توحشت هذه الجماعات المسلحة على هؤلاء المدنيين أنفسهم؟، وأين كان هذا الضمير الحى حين تشكلت مجموعات إرهابية سيطرت على مؤسسات رسمية بما فيها البنك المركزى الليبى والداخلية وشركات الاتصالات وشركات النفط واستولت على الأموال العامة بملايين الدينارات الليبية، وتحكمت فى حركة المسافرين فى مطار طرابلس؟، وأين كان هذا الضمير الحى حين تقاتلت تلك الميليشيات فيما بينها من أجل مزيد من السطوة والهيمنة على مقدرات البلاد، وترتب على قتالها موت الكثير من الليبيين فى طرابلس كما حدث فى سبتمبر الماضى؟، دعونا نترك مسألة الدعوة لوقف القتال والتهدئة وحماية المدنيين جانباً، وننظر فى بعض المفاجآت من قبيل وجود جنود أمريكيين، تابعين للقيادة العسكرية الأمريكية فى أفريقيا «أفريكوم»، تم إخراج بعضهم فى حدود 300 جندى مسلحين بأسلحة حديثة، على عجل من أحد شواطئ ليبيا إلى عرض البحر، ويقال إن مهمتهم كانت تأمين مقرات البعثات الأجنبية فى أحد أحياء طرابلس، الأمر لم يكن معلناً، فقط كان معروفاً لحكومة الوفاق برئاسة السراج، فيما يجسد خيارات الحكومة صراحة، ويعكس عدم قدرة المجموعات المسلحة التى أعلنت قبل أربعة أعوام ولاءها لهذه الحكومة على حماية البعثات الأجنبية من جانب، وأيضاً عدم ثقة حكومة الوفاق نفسها فى هؤلاء المسلحين لكى يقوموا بهذه المهمة التى لا يقدر عليها إلا مؤسسات وطنية بالمعنى الحقيقى للكلمة، هناك أيضاً جنود وعناصر أمنية هندية، خرجت سريعاً إلى تونس براً، وقيل إنها كانت تقوم بمهام حفظ السلام، وربما تكشف الأيام المقبلة عن عناصر بريطانية وفرنسية وإيطالية وجنسيات أخرى انتشرت فى طرابلس ومحيطها، ولن يكون مفاجئاً إن تكشفت تفاصيل علاقة هذه العناصر الأمنية والاستخبارية مع جماعات الإرهاب والسطو والنهب فى ليبيا، ولذا من يتحدث من مسئولى تلك الدول عن حماية المدنيين وضرورة وقف القتال، كوزيرى الخارجية البريطانى والأمريكى، ومن قبل تركيا وقطر، يمكننا تصور مدى القلق الذى يعترى هؤلاء إذا كشفت الحقائق وعُرفت الأسرار، التى تصب جميعها فى معنى واحد وهو حرص تلك الدول على استمرار ليبيا مقسمة وبدون سلطة وطنية موحدة، وغارقة فى الصراعات الداخلية ومعرضة لكى تستقر فيها العناصر الإرهابية من داعش والقاعدة، الذين يتجولون وينتقلون من بقعة جغرافية إلى أخرى تحت حماية تلك الدول، ووفقاً للخطط التى تضعها استخباراتها لتنفيذ مهام معينة باتت معروفة للكافة.

إذاً الصراع الدولى على ليبيا ليس من أجل الليبيين، بل من أجل مصالح تلك الدول أولاً وأخيراً، والمزعج الغريب أن هدف الاستقرار ومعناه لدى هؤلاء يعنى أن يبقى العملاء والإرهابيون والمـتأسلمون جزءاً من المشهد السياسى حتى يظل محملاً بعناصر التوتر إلى الأبد، ومن ثم يجلب التدخلات الخارجية ويسمح بها، وتظل تلك القوى الخارجية هى المسيطر الحقيقى على القرار الليبى، وترجمته فى صورة صفقات نفطية أو إعادة إعمار أو ولاء سياسى وأيديولوجى وإزعاج الجوار، وعندها لن تكون ليبيا سيدة نفسها أو صاحبة قرارها، وفى ضوء هذا المشهد يمكن معرفة الهدف الحقيقى وراء تلك الحملات السياسية والدعائية المحمومة التى تبرع فيها فضائيات تحركها استخبارات خارجية ضد الجيش الوطنى الليبى، وإظهار حملة «طوفان الكرامة» كنتاج صراع شخصى بين حفتر والسراج، وأن الأول يسعى للسيطرة على ليبيا ويفرض نفسه رئيساً عليها، ويتم ذلك حسب زعمهم بتحفيز من دول عربية لا تريد الخير لليبيين وتستهدف السيطرة على مقدراتهم، وأن السراج هو المغلوب على أمره يدافع عن سيادة البلاد وليس له مآرب شخصية، ويتطور الأمر إلى التهديد بفرض عقوبات أممية على الجيش الوطنى الليبى، وهو أصلاً محظور عليه الحصول على السلاح لمواجهة الميليشيات ومجموعات الإرهاب التى تحصل على السلاح بمباركة دولية بلا حرج. المتابعون لما يجرى فى ليبيا بقدر من النزاهة والحيادية يدركون أن أطراف الصراع الجارى يجمعون بين الداخل والخارج كما سبق التنويه إليه، وفيما يخص الداخل، أى الأطراف الليبية، فثمة مشروعان سياسيان كبيران يواجهان بعضهما بعضاً؛ الأول مشروع بناء دولة المؤسسات، ولديه تجربة فى بناء مؤسسة عسكرية وطنية تؤمن بأن دورها هو حماية الوطن والمواطنين تحت سقف القانون والدستور، والآخر غارق فى الموازنات بين نفوذ قوى خارجية وأخرى محلية مناطقية وجهوية وأيديولوجية، ولا حرج لديه فى رهن مصير بلاده لهذا الطرف أو ذاك. الذين يؤمنون بقيمة الوطن وأهمية المؤسسات وسيادة القانون سيقفون بالطبع مع من يدافع عن تلك القيم العليا، والذين يخضعون للخارج وليس لديهم القوة لمواجهة الخارجين عن القانون ويخضع لابتزازهم، سيقفون مع من يمثل تلك القيم الدنيا، وكما عودتنا الشعوب اليقظة والحريصة على سيادة بلادها، ومنها الشعب الليبى، ستقف بكل قوة مع من يدافع عن كرامتها وحقها فى الحياة سيدة لنفسها، تلك معركة محسومة تاريخياً، والشواهد العربية والدولية كثيرة، وما يجرى فى ليبيا الآن يجسد هذا الصراع، كما سيجسد نهايته المنطقية ولو بعد حين.