الأبنودى.. «غُنا الغلابة» فى «مدينة الضباب»

الأبنودى.. «غُنا الغلابة» فى «مدينة الضباب»
- الأبنودي
- ذكرى ميلاد الأبنودي
- ذكرى ميلاد الخال
- نهال كمال
- عبدالرحمن الأبنودي
- الأبنودي
- ذكرى ميلاد الأبنودي
- ذكرى ميلاد الخال
- نهال كمال
- عبدالرحمن الأبنودي
مرَّت 4 أعوام على ذكرى رحيل «الخال»، واليوم نحتفل بذكرى ميلاده الـ81، وكأنه لا يزال بيننا، نردد أشعاره، وفى صوته هديل الينابيع، يلقى السيرة الهلالية، ويكتب «رسايل الأسطى حراجى»، رحلة من الإبداع، أنتجت نحو عشرين ديواناً شعرياً زاد عليها دراسات وتجميعات للسيرة الهلالية الخالدة، كلماته علامات كُتبت بصوته وصوت عمالقة الغناء، لتؤرخ حيوات العرب الماضية، أبياته نظَّمها عن كل ما يؤمن به، منطلقاً من قريته مروراً بكل قضية عربية.
"الوطن" تحتفل فى ذكرى ميلاده الـ81 باكتشاف أوراقه القديمة فى العاصمة البريطانية
ولا يكتفى «الأبنودى» بما تركه لنا من إرث شعبى، فيكشف عن جديده، وتنشر قصائد جديدة له ما بين تارة وأخرى، أما اليوم، فتعيد «الوطن» الحياة لمشروعه البكر «غُنا الغلابة»، المكتوب قبل عدة عقود فى لندن عام 1973، الكتابات البكر التى تثير الجدل حول حقيقتها، هل هى إعداد إذاعى لبرنامج أُذيع فى الـ«بى بى سى» الإنجليزية أم هامش لكتاب «أيام حياتى»، أم مشروع غير مكتمل لحلم طالما حلم به كثيراً وهو تجميع «الأغنيات الشعبية»؟.
أوراق "لندن 73".. "مواويل حرّاقة" عن الوطن والحقول والمواسم
«أنا باشكر اللى خلق لى الصوت وأوصانى أقول كلام حُر».. منذ عرف الشاعر عبدالرحمن الأبنودى القلم لم يترك الكتابة، حتى بعد 4 أعوام على رحيله لا يزال لديه ما يقدمه لنا، كأنه يردد على مسامعنا: «لسه فى صوتى هديل الينابيع.. لسه فى قلبى صهيل المصباح»، فالخال لا يزال ينشد فينير جوانب جديدة فى تراثنا الشعبى، يأخذ أغنيات الصعيد من ألسنة مردديها، يكتب عن قريته (أبنود)، بنفس عقيدته التى عرفناه بها وظلت واحدة على مر السنين، فكما يُسجل التاريخ بالأغنيات يؤرخ الأبنودى نبض حياة «الغلابة» من أصواتهم.
«القرية بكاملها موجودة فى غنائها».. هكذا وصف «الأبنودى» قريته فى نوفمبر 1973 فى أثناء وجوده بلندن، حسب أرملته الإعلامية نهال كمال، التى وجدت تلك الأوراق بخط يده مصحوبة بإمضاء مَر عليه قرابة نصف قرن، الأوراق التى ظلت محجوبة عنا كل هذه السنين تعود لتظهر الآن وتكشف عن أغنيات مختلفة وروح جديدة للصعيد القابع فى قلب الأبنودى حتى فى وقت غربته، فيتجلى خلال الأسطر، فى حكايات وأغنيات، عالم آخر يغوص فى تفاصيل القرية البعيدة، القرية المهزومة أمام جمود التاريخ الذى لا ينظر إلا للأحداث الكبرى، فيأتى الأبنودى ناصراً قريته كعادته رافعاً راية الشعب.
تلك القرية «التى كل أفرادها وتنويعاتها المزاجية والطبقية وتغير أشكال الحياة تبعاً لتغير الفصول والظروف.. ما يسعدهم وما يشقيهم، أحلامهم وآثار الماضى.. طقوسهم.. علاقتهم بالحكام»، ربما تتشابه بعض حكاياتها المسطورة فى الأوراق مع حكايات «أيامى الحلوة» التى نشرت تباعاً فى جريدة «الأهرام» فى تسعينات القرن الماضى ومن ثم جُمعت فى كتابين، إلا أن الأوراق المكتوبة فى نوفمبر 1973 لا تزال الفكرة البذرة لذاك الشاب الثلاثينى الذى كتب أغنيات قريته فى البلد الغريب، متوسعاً فى تفاصيل الأغنيات على ألسنة أهله وجيرانه وكل من مر عليهم ليؤرخ حياة القرية من غنائها.
نوفمبر 1973، التاريخ الذى توقف عنده الأبنودى ليكتب تاريخ قريته، كان بعد شهر واحد من نصر أكتوبر، النصر الذى أبهر العالم ولم يعِشه الأبنودى فى بلده رغم أنه عاش نكسة 1967 فى استوديوهات الإذاعة والتليفزيون ليكتب لنا واحدة من علامات الأغنيات الوطنية، «عدى النهار»، التى غناها عبدالحليم حافظ، ورغم البعد، ترك الأبنودى بصمته بقصيدة غناها عبدالحليم حافظ مطلع عام 1974، ولحنها كمال الطويل بعنوان «صباح الخير يا سينا».
فى فترة وجوده فى لندن «عمل الأبنودى فى إذاعة (بى بى سى) مع الروائى والإذاعى السودانى الطيب صالح فى فترة السبعينات»، تقول «نهال»، مرجحة أن تكون للأوراق التى بين أيدينا صلة بعمله فى الإذاعة آنذاك، مشيرة لتشابه هذه الأوراق وبعض ما جاء فى «أيامى الحلوة» إلا أن الأوراق تبقى أكثر شمولاً وتوسعاً فى نقل صورة القرية من خلال أغنياتها.
"الأبنودى" يوثق تاريخ قريته فى أوراقه المجهولة.. و"نهال": تنويعاتها المزاجية والطبقية تتشابه مع حكايات "أيامى الحلوة" وتعود كتابتها إلى أيام عمله فى "بى بى سى" مع الطيب صالح.. وظاهرة "التسجيل" فى أوراق الخال "نفس طريقة أجدادنا الفراعنة فى نقل تفاصيل معيشتهم وأفكارهم تجاه الوجود"
يتحدث الأبنودى عن غناء القرية ويصفه بـ«التسجيل»، يعطيه أهمية كبرى فى أوراقه، وتقول نهال كمال، التى لا تعلم الهدف اليقينى لكتابة هذه الأوراق، هل هى «تسجيلات إذاعية» أم أنها بذرة كتاب «غُنا الغلابة» الذى كشفت عنه فى حديثها لـ«الوطن» قائلة: «الأبنودى أراد نشر كتاب بعنوان (غُنا الغلابة) وهى الكلمة التى كتبت كملحوظة على غلاف الأوراق».
ويعظم الأبنودى من قدر الغناء فيراه صورة من صور النحت وتسجيل التاريخ قائلاً: «نفس الطريقة التى سجل بها أجدادنا الفراعنة الأقدمون -وبنفس الأمانة- تفاصيل معيشتهم وأفكارهم تجاه الوجود فى الدنيا وتجاه الغناء، البكاء على الميت، الرقص فى الاحتفال (...) بالطبع ما زال يوجد الفنانون الذين يسجلون.. استبدلوا أدوات الحفر والنقش بأدوات الغناء، هذا إلى جانب اشتراك الناس من كافة الأنواع والأعمار.. النساء، الرجال، الأطفال، لكل نوع حياته ولكل نوع غناؤه، كل يتميز عن الآخر ولكنهم جميعاً يمثلون فى النهاية هذه الظاهرة التاريخية الكبيرة (التسجيل)».
أما عن دوافع الغناء، فعددها على مدار سطوره، موجزاً دوافعه فى الاعتراض على الواقع أو التعبير عن السعادة والحزن أو أغنيات العمل والشتاء والأعياد والمواسم أو حتى المعارك الغنائية بين النسوة، الدوافع كثيرة لكن لماذا اللجوء للأغنية؟، يقول: «لأن فلاح اليوم لا يجد الإله الذى يؤمن ببناء معبد له، فإنه بنى هذه الأشكال الغنائية الهندسية الرائعة لينحت عليها أشكال حياته، وأفكاره الدنيوية والدينية، إن ظاهرة (التسجيل) المصرية هى أهم ما حافظ عليه فلاح مصر منذ بدء الحياة حتى الآن، وتسلمته أجيال عن أجيال».
وفى موضع آخر يتحدث عن مصدرها غير المعلوم، فيقول: «لا ندرى متى تعلمن هذه الأغنيات.. بالطبع من الملاحظة الطويلة لآلاف الأغنيات كل منهن تختار ما يناسبها منها فتبدأ بعمل تكوينات غنائية تعبر عما تحس».
وفى كل الأحوال «تكشف الأغنيات خبايا القرية» فالفرق واضح، الكل هناك يسجل تاريخه بأغنياته.
ويتحدث باستفاضة عن أغانى الفلاحين المتنوعة فيقول: «الفلاح الواحد هو نفسه الذى يحرث وهو الذى يبذر وهو الذى يروى بالساقية أو الشادوف وهو الذى يسير خلف الجمال للجبال وهو الذى يحصد ويذرى الحبوب بالمذراة وهو الذى ينقلها للبيت وهو الذى يبنى بيته وهو الذى يغنى خلال كل ذلك».
ويتطرق من خلال الصفحات إلى أن الإنسان الواحد قد يصدر عنه عدة أنواع من الغناء تبعاً لتغيير شكل العمل، حسب الخال، و«لما كان نوع العمل يفرض شكل الغناء موسيقياً ويفرض اختيار الكلمات هادئة أو صاخبة، هامسة أو مستنجدة، شريفة أو بطيئة، معذبة أو راضية»، راصداً الفرق بين أغنيات الرجل والمرأة: «فبقدر ما للنوع الإنسانى من أهمية فى بناء نوع الشكل الغنائى الذى يصدر عنه فإن لنوع العمل جانباً كبيراً فى عملية بناء الشكل الضمنى الخاص لكل عملية إنتاجية، ولذلك فإن غناء المرأة تبعاً لهذا يكون مختلفاً تماماً عن غناء الرجل، لاختلاف الجنسين اجتماعياً ولاختلاف أنواع العمل التى يمارسها كل منهما».
ويهتم بشكل خاص بأغنيات النساء التى يقول عنها: «صورة حقيقية من الصور التى سجلتها أعمدة معبد الكرنك والمقابر الفرعونية القديمة فى لوحات (النائحات) وغيرها من الصور التى زحمت جدران وأعمدة المعابد ترسم لنا أصالة حزن المرأة وقيمته على رجلها ولكن من العدل أن نقول إن المرأة ليست سعيدة بهذا الدور.. وهنا تسجل أغنيات المرأة شطراً جديداً من تسجيل تاريخ القرية»، كما يتطرق للحسد، الذى يحتل جزءاً كبيراً من أفكار القرية التى تكثر بها الأمراض، لعدم وجود توعية صحية، ومن خلال الصفحات يتحدث إلينا الأبنودى من عام 1973 عن مصر من أرض لندن بأغنيات مليئة بالأشياء والأسماء مما يضفى عليها نوعاً من النبض الحياتى.