العلاج بالصدمة

الثقافة التى تكرّست عبر قرون من الزمان لا تتغير فى بضع سنوات. لم يلتفت رواد التنوير فى مصر إلى هذه الحقيقة بما يكفى، فقد لجأوا فى بعض الأحوال إلى المصادرة الكاملة على الأفكار دون محاولة تذويبها شيئاً فشيئاً. انطلق طه حسين يشكك فى بعض النصوص المقدسة، ويردد فى كتابه «فى الشعر الجاهلى»: «للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل لكن ذلك لا ينهض دليلاً على وجودهما». وفى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» دعا إلى الذوبان فى ثقافة الغرب «بحلوها ومرها.. خيرها وشرها». واتجه إسماعيل أدهم إلى إنكار الدين، وإعلان إلحاده والدفاع عنه فى كتاب عنونه بـ«لماذا أنا ملحد؟». ولا خلاف على أن هذه الجرأة المفرطة أخافت المجتمع، وجعلته لقمة سائغة فى يد المدافعين عن الثقافة المملوكية، سواء من بعض رموز السلطة، أو من المشايخ الذين كانوا يحققون من وراء ذلك مصالح محددة.

بذلت نخبة الجامعيين من المثقفين والمفكرين جهداً كبيراً فى كشف عوار الفكر المملوكى الموروث، لكنها لم تبذل جهداً موازياً فى تصحيحه، وإعادة صياغته، واكتفت بطرح البديل الغربى كطريق للخلاص. وصورة المستعمر هى الصورة التى دمغت رؤية المصريين للغرب، وقد ظل هذا الأمر حاجزاً حال بين نسبة لا بأس بها من أفراد الشعب والرؤى والأفكار الداحضة للفكر المملوكى الموروث. ولست بحاجة إلى تذكيرك باللهجة التى تحدث بها «الجبرتى» عن الثورة الفرنسية، حيث رآها بدعة، ورأى فى خروج الجمهور الفرنسى على الإمبراطور شيئاً مفارقاً لثوابت أية ملّة سماوية. ولك أيضاً أن تسترجع الملاحظات التى سردها «الجبرتى» على عادات الفرنسيين ومساواتهم بين الرجل والمرأة، وحالة الانطلاق التى كانت تحظى بها المرأة الفرنسية، وكيف كان يأسى المؤرخ الكبير على تسرّب العدوى إلى جماعته من المصريات كان يستدعى فى وصفهن كل مفردات قاموس العربية فى الخلاعة والمجون.

ولست بحاجة إلى تذكيرك أيضاً بأن الإنجليز احتلوا مصر ما يزيد على 70 عاماً، لكن لغتهم -واللغة هى الوعاء الأكبر للفكر- لم تتمكن من المصريين، وكان رفضها جزءاً من رفض المستعمر (المغاير فى العقيدة واللغة والعادات والتقاليد). ومن ناحيتهم كان الإنجليز حريصين على دعم وتغذية الثقافة المملوكية وتعميق حالة التجهيل الشعبى، خوفاً من انتفاضة المصريين ضدهم، وكان بعض أفراد النخبة المتحلّقة حول القصر الخديوى يتبنون النظرية نفسها. وعلينا ألا نجهل حقيقة أن المصريين اعتبروا المماليك الذين حكموهم عبر قرون متطاولة من الزمن جزءاً منهم. وكان «الجبرتى» يصفهم فى كتاباته بالأمراء «المصرلية»، وينعتهم بـ«المصريين»، وهو يصف معاركهم ضد الحملة الفرنسية، وحتى ضد الأتراك العثمانيين. المشكلة أن فكر المماليك اكتسب «صبغة مصرية»، وأصبح جزءاً من العقل المصرى، فى حين أن فكر التنوير اكتسب «صبغة استعمارية» لم تمنحه فرصة للإثمار أو الازدهار على المستوى الشعبى بالشكل المرجو، لكن يبقى أنه تمكّن بمرور الوقت من احتلال مساحات جديدة، وساعدت التطورات التكنولوجية المتلاحقة التى بدأت فى اختراق الحالة المصرية على المزيد من التمكين له، لتثبت حقيقة أن «العلاج بالصدمة» الذى اتبعه بعض رواد التنوير فى مواجهة الفكر المملوكى لم يثمر ما طمح إليه من نتائج، وأن فعل الزمن والتطور التكنولوجى أكبر أثراً فى هز الثوابت.