الانشقاق السعدي.. خلافات «النحاس والنقراشي» تطيح بـ«الوفد» من الحكومة
محمود فهمي النقراشي وأحمد ماهر باشا وأحمد حسنين باشا
كثيرًا ما تشهد برلمانات العالم معارك ساخنة، ولكنها نادرًا ما تنشب بسبب ذلك الإجراء الروتيني المعتاد «تلاوة الرسائل»، التي أصبحت محل صراع عنيف داخل قاعة مجلس النواب 3 يناير 1938 بين الأغلبية الوفدية ورئيس المجلس أحمد ماهر باشا، الذي ينتمي إليها.
اشتد الخلاف بين رئيس المجلس والأغلبية الوفدية، حتى أدى إلى اقتحام حرس البرلمان للقاعة وإطفاء النور، واستكملت الجلسة على أضواء القدحات والبطاريات، حتى رُفعت دون أن يدري أحد من الذي رفعها، لينتهي بتلك الجلسة برلمان الوفد الذي يشكل الهيئة النيابية السادسة.
من صفحة واحدة، تصدر مضبطة الجلسة بتوقيع أحمد ماهر رئيس المجلس الوفدي الذي كان ينشق على الوفد آنذاك، تتوقف عند لحظة إطفاء الأنوار التي حل محلها العبارة الشهيرة «ترفع الجلسة».
وفي 1942 تقدم محمود سليمان غنام، الذي كان سكرتيرًا لهذه الجلسة، بطلب لمجلس النواب الوفدي الجديد (الهيئة النيابية الثامنة)، ويستصدر قراراً بكتابة مضبطة جديدة لذات الجلسة تروى ما حدث في ضوء البطاريات.
وتصبح الجلسة التي انعقدت في الظلام من الجلسات النادرة في التاريخ البرلماني المصري والعالمي التي أقرت بصدورها مضبطتين مختلفتين، كيف حدث ذلك؟ تلك هو الانشقاق السعدي الشهير الذي أطاح بحكم الوفد في نهاية 1937.
شرارة الانشقاق السعدي عن «الوفد»، بدأت عندما أعاد مصطفى النحاس زعيم الحزب، ورئيس الوزراء، تشكيل الحكومة في نهاية يوليو 1937 بمناسبة إتمام الملك فاروق لسن الرشد وتوليه سلطاته الدستورية.
انتهز «النحاس» الفرصة، واستبعد محمود فهمي النقراشي وزير المواصلات وثلاثة وزراء آخرين من تشكيل الوزارة الجديد بسبب اختلافهم معه لإسناده مشروع توليد الكهرباء من خزان أسوان لشركة إنجليزية بغير مناقصة عالمية وبغير عرض على البرلمان.
وفي 13 سبتمبر 1937، بعد هجوم «النقراشي» على قرار استبعاده عن الوزارة، قرر «النحاس» وهيئة الوفد العليا بطرده من الحزب، عدا أحمد ماهر الذي أعلن أنه مازال يعتبر النقراشي عضوا في الوفد.
مع بداية دور الانعقاد الثالث للمجلس في 18 نوفمبر 1937، انتخبت الهيئة البرلمانية للوفد أحمد ماهر رئيسا لمجلس النواب، لتهيىء الظروف للانشقاق السعدي وطرد الوفد من الوزارة.
سارعت السراي بتحريك الأحداث لإيجاد ذريعة لطرد الوفد من الوزارة، فعينت علي ماهر شقيق أحمد ماهر، رئيسا للديوان الملكي على غير رغبة الوزارة، ثم افتعلت خلافات دستورية مع الوفد لتقترح التحكيم فيها، وعندما رفض الوفد صدر المرسوم الملكي بإقالة الوزارة الوفدية، وعهد إلى محمد محمود باشا بتشكيل الوزارة الجديدة، وتقرر تأجيل انعقاد المجلس لمدة شهر تمهيداً لحله، حيث كان مستحيلا أن تحصل الوزارة الجديدة على ثقة البرلمان.
انعقد المجلس 3 يناير 1938، لتلاوة إحدى رسالتين، مرسوم تشكيل الوزارة، أو مرسوم تأجيل انعقاد البرلمان، وكان أحمد ماهر رئيس المجلس قد تحالف مع الوزارة الجديدة، وكان عليه أن ينفذ طلبها بعرض مرسوم التأجيل أولا، أما «النحاس» ومعه الأغلبية البرلمانية فكانت تريد عرض مرسوم تشكيل الوزارة حتى تطرح الثقة بشأنها، وتسقط تلقائيا، ودار الصراع.
وفقاً لمضبطة أحمد ماهر، «قاطع مصطفى النحاس الرئيس طالبا الكلمة قبل تلاوة الرسائل، على أساس أنه سيتحدث في شأن اللائحة الداخلية للمجلس، غير أن الرئيس صمم على رفض طلبه، وأمر برفع الجلسة عندما عجز عن السيطرة عليها»، وتقف المضبطة عند هذا الحد.
أما المضبطة الثانية التي تم صياغتها من وجهة نظر الوفد تستكمل رواية وقائع الجلسة، «يصعد محمد عبدالهادي الجندي بك وكيل المجلس إلى منصة الرئاسة وسط التصفيق الحاد للأغلبية الوفدية، ويفشل أحمد ماهر في منعه من الجلوس، فيأمر موظفى المجلس بالخروج وعدم إثبات شيء بالمضبطة، على أساس انتهاء الجلسة، ويأمر بإطفاء الأنوار ودخول حرس المجلس القاعة وخروج الزوار والصحفيين من الشرفات».
«يجتمع عدد من أعضاء مكتب المجلس على منضدة السكرتارية لتدار الجلسة من هناك بعيداً عن المنصة والحرس وسط الهتافات بسقوط أحمد ماهر، ويشعل الأعضاء قداحاتهم وبطارياتهم، وتمنح الأغلبية الكلمة لزعيمها مصطفى النحاس، الذي انبرى متهما أحمد ماهر بالتآمر على الدستور بمحاولته تلاوة مرسوم تأجيل انعقاد البرلمان الصادر من وزارة لم يخطر المجلس بتشكيلها أصلاً، ليحمي الوزارة من الاقتراع على الثقة بها».
«شرع النحاس في تلاوة اقتراح مسبب بسحب الثقة من الوزارة، باعتبارها من وجهة نظر الوفد تمثل أقلية وتحارب الدستور وتفرط في حقوق البلاد وتعتدي على الحريات وتتدخل في شؤون القضاء، وينال الاقتراح تصفيقا حاداً، ويتوجه النواب إلى منصة السكرتارية للتوقيع عليه في ضوء البطاريات، ويعلن محمود سليمان غنام، سكرتير الجلسة، ان التوقيع عبارة عن إعلان النواب لآرائهم، وليس سحباً للثقة حيث أن مرسوم تشكيل الوزارة لم يطرح أصلاً»، وتنتهي الجلسة.
وعقب هذه الجلسة تم طرد أحمد ماهر من حزب الوفد، لينضم إلى «النقراشي» ويتزعم الحزب السعدي الذي شكلاه سويا وخاضا به الانتخابات في أبريل 1938، كان أقوى أحزاب الأقلية في عهد دستور 1923، واشترك في وزارة محمد محمود في يونيو 1938.