7 أيام على حريق محطة مصر.. ذكريات "رصيف نمرة 6" لا تموت

7 أيام على حريق محطة مصر.. ذكريات "رصيف نمرة 6" لا تموت
أسبوع كامل مضى على حادث قطار رمسيس، رائحة دماء الضحايا عالقة في حجارة رصيف "الموت" كما يلقبه البعض، عادت الحياة تدريجيًا إلى المكان عشية ليلة الكارثة وامتلأت الأرصفة بالركاب ليل نهار ولكن بداخل كل من مر بهذه اللحظة حكاية خاصة به ومصير جديد يواجهه.
تفاصيل المشهد السابق بما فيها من معاناة، يُجمّلها قليلا مبادرات دعم أطلقها متطوعون عدة باسم الإنسانية، وهرولة أطباء الإنقاذ لعمل اللازم تجاه المصابين هدأت معها أصوات الصراخ وسكن بكاء الأهالي قليلا وبدأت الحياة تعود تدريجيا إلى ما كانت عليه.
أرجلهم ترتعش قليلا تقدم خطوة وتؤخر خطوة، مترددين بين الدخول و العودة إلى الخلف، ذاكرة الناجين من الحريق لا تزال عالقة عند لحظة الانفجار كلما اقتربوا من المحطة يدوي صداه في أذانهم من جديد فتخشى أقدامهم أن تطأ نفس الأرض مرة آخرى بعد أن فروا عليها من الموت بأعجوبة لا يعلمون كيف تمت حتى الآن.
مرضي وعبد الرحمن اثنين من أبطال الإنقاذ الثلاثة: طلبنا أجازة من العمل للتعافي من أثار الحادث
"سليمان مختار"، واحدا من الناجين بالحادث هو وأسرته، رغم بشاعة ما رآه من حوله لحظة الانفجار إلا أنه لم يجد مفرا من العودة على متن القطار نفسه المتجه ليلا إلى الإسكندرية، فهو الوسيلة الأسرع بالنسبة له، اعتاد عليها منذ سنوات بحكم طبيعة عمله الحر في مجال الأجهزة الكهربائية والتي تتطلب منه دائما شراء بعض الأدوات من منطقة "وسط البلد".
مختار الذي وصل صباح يوم الحادثة على رصيف 5، اصطحب زوجته وأبنائه في ذلك اليوم إلى القاهرة لشراء بعض احتياجات المنزل.
وبحسب حديثه لـ"الوطن"، وصل هو وأسرته للمحطة قبل الانفجار بنحو 3 دقائق فقط، وشاهدوا هرولة الركاب على رصيف 6 وجثث المصابين المشتعل بها النيران، وحينها حاول الهرب بهم ونجحوا في العبور بسلام ورغم بشاعة الموقف يصر الرجل على ركوب القطار لقضاء مشاويره الخاصة به،" اللي شوفناه لسه مأثر علينا لحد دلوقتي بس الأعمار بيد الله منعرفش نستغنى عنه والحادثة دي قضاء وقدر".
على النقيض تماما، من موقف الناجي سليمان، قرر محمد أسامة أن يستقل المواصلات العادية للعودة إلى مقر إقامته في طنطا ليلة الحادث، فهو وحسب قوله، بعد أن تمالك أعصابه لم يملك الجرأة الكافية للدخول إلى نفس مكان الفاجعة ليرى أثار الدم والرماد التي نجا منها بأعجوبة.
"نفسيا لسه متأثر باللي شوفته ومش هقدر أركب القطر تاني دلوقتي"، استكمل الناجي الثلاثيني محمد أسامة حديثه لـ"الوطن" مؤكدا أنه لن يتسغنى عن القطار كوسيلة سهلة وسريعة لقضاء الزيارات التي يأتيها إلى العاصمة لإنهاء بعض الأوراق الخاصة به،"الحوادث دي مش دايما و بتحصل كل فترة".
وسط ظلام الفاجعة تسلل شعاع نور من تضحية إنسانية قدمها ثلاثة من العاملين بالمحطة جسدوا بما فعلوه لإنقاذ الركاب بطولة جماعية تحاكى بها الشهود على الواقعة والمتابعين لاخبارها، إلا أنهم ورغم شجاعتهم تمكنت الحادثة من نفوسهم تداهم ذاكرتهم ليلا كلما خلدوا إلى النوم قليلا يستفيقون على مشاهد منها يدعون لمن مات بالرحمة ولمن أصيب بتمام الشفاء.
الناجون.. "مختار" عاد مع أسرته إلى المنزل بالقطار في نفس يوم الحادث وأسامة: لسه متأثر باللي شوفته
الثلاثي "وليد مرضي" و"محمد عبد الرحمن"، و"محمد ذئب"، عمال الأكشاك الثاني والثالث والرابع بالترتيب، ثلاثة من عمال الشركة الوطنية لإدارة عربات النوم، برزت بطولاتهم في إنقاذ الركاب بموقع الحريق، أحدهم ظهر بالفيديو المتداول بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، والآخران شاركا معه في إنقاذ المارة من النيران.
"خدت أجازة من الشغل مرجعتش من وقت الحادثة"، كلمات قليلة مختصرة تعكس أسبوعا كاملا من القلق والإرهاق، بدأ بها البطل وليد مرضي، حديثه لـ"الوطن" عن تفاصيل الأيام التي أعقبت الحادث، مؤكدا أنه لايزال يتذكر ما عاشه يومها، "لما باجي انام بفتكر المشاهد دي كلها".
ابن المنوفية، الذي يعمل بمحطة مصر منذ أكثر من 17 سنة، وظهر في الفيديو المتداول، لحظة إنقاذه للمواطنين على رصيف المحطة وقت الحريق، أكد أنه تعمد أن يحصل على إجازة حتى يبتعد قليلا عن المكان الذي شاهد فيه جثث الضحايا والمصابين، ولكن ما حدث لن يثنيه عن مباشرة مهامه كما كانت على أكمل وجه،"هرجع أشوف شغلي زي الأول وربنا يقدرنا وننسى اللي حصل".
لم يختلف أثر الصدمة على البطل الثاني محمد عبدالرحمن، ابن محافظة الشرقية، العامل بالكشك الثالث في الترتيب، عن صديقه "مرضي" فهو وحسب حديثه طلب الحصول على إجازة من اليوم التالي للحادث حتى يبتعد قليلا عن المشهد الذي عاش فيه أصعب ساعات في حياته.
عبدالرحمن أكد أنه يتذكر حتى هذه اللحظة تفاصيل ساعة الرعب التي عاشها في إنقاذ الركاب، إلا أنه لم يفعل إلا ما يتوجب على أي شخص عمله في مثل هذا الموقف،"أنا معملتش غير الواجب "، حسب تعبيره.
البطل الثالث في مشهد الحادثة محمد الذئب، اختلف موقفه تماما عن صديقيه السابقين، فعلى الرقم من هول المشهد الذي عاشه، أصر على الحضور إلى مكان عمله بعد يومين فقط من الحادثة، لاقتناعه بأن عمله يحتاجه وعليه أن يتجاوز ما حدث.
"كل ما بعدي من المكان بشوف زمايلي كأنهم معديين قدامي"، استكمل الذئب حديثه لـ"الوطن" مؤكدا أنه يذهب يوميا على متن القطار للموصول إلى مقر إقامته بمحافظة المنوفية ولم يخشى الموت ولكن أثار الحادثة عالقة في ذهنه حتى هذه اللحظة.
المصابون الناجون من الحادث، لا تزال أثاره باقية على أجسادهم يتعافون منها يوما بعد يوم بخضوعهم إلى جلسات علاج مكثف، عادوا إلى منازلهم وسط أهليهم واصفين نجاتهم من الحادث بـ"معجزة إلهية".
منى عبدالفتاح، واحدة من المصابات في حادث "محطة مصر" والتي تدوالت صورتها وهو تحمل أكياس في طريقها إلى المحطة وسميت بـ"حاملة الأكياس"، بدأت حديثها لـ"الوطن" بعد أسبوع من ذكرى الحادث قائلة:"الحمدلله إني رجعت لبيتي وأهلي بعد ما كان بيني وبين الموت خطوة".
مر أسبوع كامل على الحادثة ولم تحاول السيدة الناجية أن تتذكر تفاصيل اليوم بداخلها بشكل دائم في محاولة منها لنسيانه بعد أن استقرت حالها نسبيا وغادرت مستشفى"دار الشفاء" بالقاهرة بصحبة زوجها وشقيقتها واتجهت إلى محل إقامتها بمحافظة الأقصر.
السيدة التي تعمل معلمة بمحافظة الأقصر، وجاءت إلى القاهرة لحضور دورة تدريبية، لاتزال تتلقى علاجا يوميا للحروق التي أصيبت بها من الحادثة، إلا أنها وبالرغم من ذلك عبرت عن رضاها بما حدث معها ويكفي أنها عادت لحضن أبنائها،"الحمدلله على قدره كل اللي يجيبه خير".
"لدينا 3 حالات في غرف عادية وحالة واحدة في العناية المركزة"، بهذه العبارة فقط رد الدكتور هاني راشد مدير معهد ناصر على سؤال "الوطن" حول مصير المصابين الذين يتلقون العلاج بالمستشفى، لافتا إلى أن الحالات الثلاث في تقدم مستمر وتستجيب للعلاج اليومي أما الحالة المتواجدة في غرفة العناية المركزة تم وضعها على جهاز تنفس صناعي ولاتزال حتى لحظة حديثه.
كعادتهم لم تتوان الفرق التابعة لمؤسسة الهلال الأحمر المصري في تقديم الدعم والمساعدة الطبية والنفسية في أوقات الكوارث، فمنذ الساعة الأولى من حادث"محطة مصر" انتشرت فرق المتطوعين على أرصفة المحطة بين الركاب يسعفون المصابين تارة ويساندون أهالي الضحايا تارة آخرى واستمر الدعم طيلة الأسبوع الماضي وحتى هذه اللحظة، وفقا للدكتور لطفي غيث المدير الإقليمي لوحدة إدارة الكوارث بالهلال الأحمر.
بواسطة متطوعين مدربين ومؤهلين لتلك المهمة، انتشرت فرق الدعم النفسي للهلال الأحمر، بين أروقة المستشفيات التي تقدم علاجا للمصابين وبين أسر الضحايا أيضا، لتأهيلهم نفسيا لما حدث وفي حديث غيث لـ"الوطن" أكد أن الدعم النفسي المقدم لهم يتمثل في مساعدتهم على تخفيف أثر الصدمة وتفادي تطور وتقبل الوضع الجديد وهو ما يختلف من شخص لآخر،"في حالات بترفض وحالات بتستجيب وفي كل الأحوال فرقنا دايما متاحين بأماكن تلقي العلاج لتقديم المساعدة".
مدير معهد ناصر: لدينا 3 حالات في أقسام المستشفى العادية وواحدة فقط في العناية المركزة
وعن موقفهم من دعم الحالات التي غادرت إلى محل إقامتها في محافظات مختلفة في أنحاء الجمهورية قال غيث، "لدينا فرق في كل المحافظات وتتولى الفرق التابعة لنا بكل محافظة متابعة الحالات حتى في محل إقامتها".
شهامة المصريين اتضحت جليا وقت الأزمة، كل منهم مد يد المساعدة بما يستطيع بعضهم تطوع لعلاج المصابين من الناحية الطبية وآخرون تطوعوا لدعمهم نفسيا بما أمكن، من بين هؤلاء نشرت أمل الزعفراني، المعالج النفسي بطريقة السايكودراما، إعلانا عبر صفحتها الشخصية على موقع "فيس بوك" تخبر المصابين وأسر الضحايا باستعدادها التام لعلاجهم نفسيا من أثار مشهد الكارثة التي عاشوها.
المدير الإقليمي للهلال الأحمر: الدعم النفسي للمصابين وأسر الضحايا مستمر منذ يوم الحادثة في جميع المحافظات
"جلسات علاج نفسي مجانية لأي حد كان في الحادثة أو فقد حد"، نص الإعلان الذي نشرته المعالجة النفسية عقب ساعات من انتهاء يوم الحادث، وفي حديثها لـ"الوطن" أكدت أنها حتى الآن استقبلت حالة واحدة فقط من الناجين جاءت تشكو من عدم قدرتها على تجاوز ما عاشته من لحظات رعب، رفضت المعالجة النفسية الإفصاح عن هويتها احتراما لخصوصيتها.
رغم كثرة المصابين والناجين من الحادث وتداول هذا الإعلان وباقي الإعلانات المشابهة له إلا أن الحالات لم تستجب بشكل كبير لتلك المبادرات، وهو مافسرته الزعفراني بقولها،"في بداية الصدمة بيكون الشخص في حالة إنكار تام للي حصل وبعد أيام بيبدأ يستوعب حجم تعبه ويدور على حد يسمعله"، مؤكدة أن عرضها سيظل قائما حتى تتوافد حالات آخرى.