د. محيى الدين: دول المنطقة الأعلى فى معدلات الفقر والبطالة فى «عصر المربكات الكبرى»
محمود محيى الدين أثناء كلمته أمام «القمة العربية التنموية.. الاقتصادية والاجتماعية»
فى طرح استثنائى مكتمل الرؤية، وشمولى من حيث تداركه لكافة المدخلات الراهنة فى رسم الأوضاع الاقتصادية فى العالم، ومن خلفية عراقة الانتماء للمنطقة وتبوؤ مراكز سياسية قيادية بها، وفوق كل هذا الاحتراف والتميز داخل أكبر مؤسسة مالية عالمية؛ رسم الدكتور محمود محيى الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولى صورة كاملة بلا أى تجميل للواقع الصعب الذى تعيشه دول المنطقة العربية الآن.
عرض متميز قدمه الدكتور محيى الدين، أمام «القمة العربية التنموية.. الاقتصادية والاجتماعية» التى عُقدت مؤخراً بالعاصمة اللبنانية بيروت، وصف محيى الدين، العالم بأنه قد تغيرت موازينه بسبب الأزمة المالية العالمية التى اندلعت فى عام 2008، وما سبقها ولحقها من أزمات فى أسعار الغذاء والطاقة، وتوترات النزاعات الحمائية، وتصاعد دور التيارات الشعبوية اليمينية واليسارية؛ مع حدة الاستقطاب فى الشارع السياسى، تزامناً مع حالة الجزع من تراجع نسبى لبعض القوى الاقتصادية التقليدية وتقدم للبازغين من القوى الاقتصادية الجديدة.
وفى هذا الإطار بدأ العرب يبحثون عن مكان لهم على أمل أن تكون ترتيبات النظام الدولى الجديدة أكثر إنصافاً، وهنا يرى نائب رئيس البنك الدولى أن فى هذا العصر الذى يطلق عليه «عصر المربكات الكبرى» أن أمام الاقتصاد العربى تحدياته، فضلاً عن التحديات العالمية التى يتأثر بها، فعلى سبيل المثال وليس الحصر؛ تقدر الخسائر فى النشاط الاقتصادى بسبب الحروب والصراعات ما يزيد على 900 مليار دولار، لتضيف عبئاً على أعباء أخرى تراكمت على تراجع فى النمو فى البلدان العربية إلا قليلاً منها.
النائب الأول للبنك الدولى يحذر المنطقة العربية من صدمات اقتصادية بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض وانخفاض الإيرادات السيادية
وينتقل محيى الدين فى تحليله للأوضاع العربية إلى لغة الأرقام التى لا تكذب، ويوضح أن المنطقة العربية ارتفعت بها نسب من يعانون من الفقر المدقع إلى الضعف من 2013 وحتى 2015، حيث قفزت من 2.6% إلى 5% وفقاً لآخر إحصائيات البنك الدولى فى 2018، كما أن الإقليم الاقتصادى العربى هو الأسوأ فى عدم العدالة فى توزيع الدخل، إذ يستحوذ أغنى 10% من السكان على 61% من الدخل القومى، فى حين أن النسبة نفسها فى أوروبا لا يتجاوز نصيبهم الـ 37%، وفى الصين 41%، والهند 55% من دخلهم القومى.
وبنظرة على معدلات النمو التى لم تحقق فى دول المنطقة سوى تحسن طفيف لتصل إلى 2.3% مقارنة بـ 2%، نجد أن هذا الرقم لا يلبى احتياجات التنمية ولا زيادات السكان الراهنة والمتوقعة، وينتقل «محيى الدين» إلى نسب البطالة التى هى الأخرى ضعف متوسط نسبة البطالة العالمية، حيث بلغت 10.6% بالمنطقة العربية مقارنة بـ 5.7% بباقى دول العالم.
التنمية المستدامة لا تتحقق بالصفقات المالية المتناثرة والإنفاق المشتت.. ومطلوب سياسة متناسقة ومؤسسات ذات كفاءة
ويستطرد «محيى الدين» فى رصده الأحوال بالمنطقة العربية بالأرقام، مشيراً إلى أن الاقتصاديات العربية تحتاج إلى تمويل يصل إلى 230 مليار دولار سنوياً لتحقيق التنمية المستدامة، فى حين أن الفجوة التمويلية فى الدول ذات العجز المالى تصل إلى 100 مليار دولار سنوياً، وهنا يؤكد «محيى الدين» حقيقة بالغة الأهمية، هى أن التنمية المستدامة لا تتحقق من خلال صفقات مالية متناثرة أو إنفاق مشتت؛ بل يجب أن تستند على نهج متكامل قوامه سياسات متلاحقة ومؤسسات ذات كفاءة، مع التأكيد على تضمين الشباب والمرأة من خلال إتاحة فرص العمل والاستثمار وريادة الأعمال بواسطة مؤسسات متخصصة وتمويل داعم.
ويستطرد «محيى الدين» رؤيته لتحقيق التنمية المستدامة بصورتها السليمة المتكاملة، مؤكداً أهمية توطين التنمية محلياً فى مناخ تنافسى بين المدن والمحافظات والأقاليم لجذب الاستثمارات وتطوير وحدات الإنتاج والخدمات الأساسية ورفع الكفاءة من خلال الإجراءات المالية العامة، ودفع التنافسية وتحفيز الابتكار.
وينتقل نائب رئيس البنك الدولى إلى بُعد آخر فى رؤية التنمية المستدامة المتكاملة؛ ويتطرق إلى أهمية إيقاف نزيف خسائر الكيانات الاقتصادية المملوكة للدولة، وضرورة استخدام الأصول المعطلة فى زيادة الموارد وتحويلها إلى أرصدة تمول التنمية.
ضرورة إعادة استخدام الأصول المملوكة للدولة بأريحية.. وتطوير التقنيات المالية والاستثمار فى البشر والتنافس التكنولوجى أبرز المتطلبات
وأوضح «محيى الدين» أن محاور تمويل التنمية العربية السبعة التى يمكن لمجموعة البنك الدولى الإسهام فيها تعتبر أولها؛ تعبئة الموارد المحلية بكفاءة وإنفاقها بفعالية وتحسين الإنفاق العام، والتصدى العاجل لخلل الموازنات العامة العربية، الذى يترتب عليه تراكم المديونيات المحلية والعالمية، وارتفاع معدلات التضخم والغلاء، مؤكداً فى تحليله القيّم أنه على الرغم من التحسن الطفيف الذى طرأ على موازنات الاقتصاديات العربية ممثلاً فى انخفاض العجز إلى 4.5% وفقاً للتقديرات مقارنة بالعام الماضى، فإن مدى تعرضها لصدمات اقتصادية ما زال كبيراً، مع اتجاهات ارتفاع تكلفة الاقتراض لتمويل العجز وانخفاض الإيرادات السيادية لمعظم الدول.
ويتمثل ثانى محاور تمويل التنمية العربية التى يمكن أن يساهم من خلالها البنك الدولى فى «تطوير التقنية المالية»، والتى تُخفض من تكلفة المعاملات، وترفع قدرات خدمة أعداد غفيرة من العملاء الجدد بواسطة استخدام التقنيات التكنولوجية مطردة التطور؛ مثل خدمات الإنترنت والهاتف المحمول واستخدامهما معاً قد حقق تمكين المناطق النائية والريفية من استخدام الخدمات المالية بعدما كانت حكراً على المناطق الحضرية.
ويتضمن ثالث المحاور؛ تدفقات التمويل الخاصة فى شكل استثمارات أجنبية، وهنا يشير نائب رئيس البنك الدولى، إلى دراسة لـ«الأسكوا» توضح أن مقابل كل دولار من الاستثمار يأتى للاقتصاد العربى فإن 1.8 دولار يخرج من المنطقة كاستثمار فى دول غير عربية، أو كعوائد استثمار للشريك الأجنبى، علماً بأن الاستثمارات الأجنبية للدول العربية قد تراجعت بشكل عام، فضلاً عن تزايد حجم الإيداعات العربية فى الخارج فى شكل ودائع مصرفية، وهنا يسلط «محيى الدين» الضوء على إمكانات وجود فرصة للمنطقة العربية فى مجالات التمويل الأخضر التى يعلن مؤسسوها أن استثماراتهم تعد من هذا النوع المؤثر اجتماعياً أو بيئياً، وقد بلغت الأصول المستثمرة فى هذا النوع نحو 228 مليون دولار فى ديسمبر 2018، وتشير التوقعات إلى أن التمويلات قد تصل إلى تريليون دولار فى الأجل القصير، ومن الممكن أن تستفيد معظم الدول العربية من هذه التمويلات الجديدة.
أما المحور الرابع فيتمثل فى المساعدات الإنمائية الرسمية والتى تصل إلى 150 مليار دولار سنوياً، وقد زاد نصيب المنطقة العربية مؤخراً من هذه المساعدات التى توجهت بالأساس للمجالات الأساسية ومعاونة اللاجئين.
ويتضمن المحور الخامس المساعدة فى التوثيق بين مصادر التمويل العامة والخاصة والمحلية والأجنبية، وتفعيل نظام المشاركة بالنمو الذى يقلل أعباء الدين.
وبالنسبة للمحور السادس، الذى من الممكن أن يساند فيه البنك الدولى للتنمية المستدامة بالمنطقة العربية، فهو يتناول ملف التجارة البينية فى العالم العربى وكيفية تدعيمها لتحسين أرقام التبادل التى لم تتجاوز حتى الآن حصة الـ 10%، مشيراً إلى أهمية وجود استراتيجية متكاملة للتجارة الإلكترونية وآليات لتسوية المدفوعات.
أما المحور الأخير الذى يمكن أن يسهم به البنك الدولى لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بالمنطقة فهو ملف التعليم والاستفادة من التكنولوجيا والابتكار، موضحاً أنه فى الوقت الذى يشهد فيه العالم بداية الثورة الصناعية الرابعة، نتذكر أنه لم يكن نصيب العرب من الثورات الصناعية الثلاث السابقة وعوائدها متناسباً مع مقومات وإمكانات المنطقة العربية، مشيراً إلى أهمية الاستفادة من التصنيف الدولى للرقم القياسى الجديد لرأس المال البشرى الصادر من البنك الدولى فى 2018- الذى يصنف اقتصاديات الدول وفقاً لمؤشرات التعليم والرعاية والصحة واحتمالات توقع الحياة للمواليد حتى سن الالتحاق بالمدارس- والذى احتلت فيه سنغافورة وكوريا واليابان المراكز الأولى الثلاثة، ونجد فى ذيل القائمة التى شملت 157 دولة اقتصاديات شاسعة الأراضى وغنية بالموارد الطبيعية.
وتمنى نائب رئيس البنك الدولى أن يكون هناك تعاون مشترك لما يكون فيه نفع للشعوب العربية؛ من خلال هذه المحاور التى قدمها البنك الدولى لدول العالم فى مجال التنمية المستدامة؛ لتحظى المنطقة العربية بفرصة الفوز بمكانة لائقة فى ظل صياغة الاقتصاد العالمى الجديد، والذى يحكم عدالة الوجود به؛ جودة التخطيط ووضوح الأهداف.