د. خالد وصيف يكتب: أسرار السد العالى الخمسة

كتب: د. خالد وصيف

د. خالد وصيف يكتب: أسرار السد العالى الخمسة

د. خالد وصيف يكتب: أسرار السد العالى الخمسة

بعد مرور 59 عاماً على بدء العمل فى إنشائه «يناير 1960»، و49 عاماً على افتتاحه (يناير 1971)، ما زال السد العالى يشغل مكاناً مرموقاً فى الذاكرة الجمعية للمصريين بالرغم من أن الشريحة العمرية التى عاصرت البناء والافتتاح لا تمثل أكثر من 15% من إجمالى تعدادنا الذى تجاوز المائة مليون. ما سر هذا المكان والمكانة؟. ربما بسبب الإنجازات التى تحققت من بنائه، فمن يستطيع أن ينكر دور السد فى اتساع مساحة الرقعة الزراعية بنحو 2و1 مليون فدان. أو دوره فى تحويل 970 ألف فدان من نظام الرى الحوضى إلى نظام الرى الدائم أو تحسين الملاحة النهرية على مدار السنة، بالإضافة إلى توليد طاقة كهربائية جديدة تصل إلى 10 مليارات كيلووات سنوياً، استغلت فى إنارة القرى والمدن وأغراض التوسع الصناعى والزراعى، ووقاية البلاد من أخطار الجفاف فى السنوات شحيحة الإيراد مثلما حدث فى الفترة من عام 1979 إلى عام 1987. وهذا هو السر الأول.

السر الثانى يرتبط بتاريخنا الأدبى الثرى بالحكايات والقصص والأساطير مثل إيزيس وأوزوريس والفلاح الفصيح، لكنه فقير فى الملاحم التى عرفتها البيئات الصحراوية وزخرت بها حضارات اليونان القديمة. الملاحم تقوم على فكرة الصراع الذى يخلق تحدياً قاسياً ينتج عنه استجابة. هذه الاستجابة إما تكون سلبية بالانزواء والاستسلام، أو استجابة إيجابية بالصمود والمقاومة. وهذا ما تحقق فى السد العالى بوضع ملحمة متكاملة الأركان أكملت نقصاً فى تراثنا الأدبى والشعبى والغنائى. قلنا هنبنى وأدينا بنينا السد العالى، هى نموذج للإطار الغنائى المساعد لترسيخ فكرة الملحمة لدى المصريين.

ارتبط بناء السد بمعركة سياسية خاضتها مصر بعد ثورة 1952 جعلته يتحول من مشروع بناء إلى ملحمة تجسد حق المصريين المشروع فى التنمية بدون الاعتداء على استقلالهم أو المساس بكرامتهم. بناء ركامى من أحجار الجرانيت يقام جنوب أسوان داخل الحدود المصرية لا خارجها مثلما كانت مقترحات الخبراء الإنجليز. اختيار موقع السد لم يتم بناء على اعتبارات فنية فقط، لكنه جاء متسقاً مع الشخصية المصرية التى تقدس الملك (بكسر الميم) نبنى فى ملكنا لنحميه من الاعتداء. المصرى المرتبط بنهر النيل يعشق البناء والتعمير، وهدفه الأول فى الحياة امتلاك ولو متراً واحداً من الأرض. يستوى فى ذلك الفقير والميسور والمتعلم والجاهل وأهل المدن وأهل الريف. من ذهب للعراق أو إلى ليبيا من العمالة الحرفية فى الثمانينيات أول ما عاد بمدخراته يشترى قطعة أرض ثم يقيم بناءً عليها. ومن يعمل فى الخليج أو أوروبا وأمريكا يشترى بيتاً أو فيلا أو قصراً طبقاً لإمكانياته، المهم أن يقيم بناءً ويتحول لصاحب ملك.

عشق التعمير هو سمة من سمات الحضارة المصرية عبر التاريخ. حضارة فيضية بالتعبير الجغرافى قامت مثل مثيلاتها بالعراق والهند على الدلتاوات التى تنشأ من رواسب الأنهار. لكنها تميزت عنها بولع شديد بالبناء والمعمار. الأهرامات والمعابد المنتشرة فى كل ربوع مصر تؤكد هذا الولع. سلسلة القناطر الضخمة والترع الواسعة التى حفرها محمد على وخلفاؤه تأتى فى نفس السياق. المشروعات القومية التى يجرى تنفيذها فى مصر حالياً لم تنشأ من فراغ، خلفها نداء الأجداد بالاستمرار فى البناء والتعمير مهما كانت الصعاب. وهذا هو السر الثالث.

حضارة المصريين معنية بالبناء والتعمير بجوار حواف النهر وقريب منه، وبعد البناء تبذل كل الجهود للحفاظ على المعمار من الاندثار أو الاستحواذ، تدافع بكل ما أوتيت من قوة عما أنجزته فى حرب دفاعية تنتصر فيها، ثم يعود المصريون مرة أخرى قانعين بملكهم لا يطمعون فى أملاك الغير ولا يقبلون التفريط فيما لديهم. ومن هنا يمكن أن نربط بين عشق المعمار وحب الحياة والرغبة فى الخلود بإقامة بناء قوى يصمد أمام عوادى الزمن ويتحدى الطبيعة، من خلال إتقان شديد فى الصنعة واهتمام كبير بالجودة. وفى تقديرى أن السر الثالث لبقاء السد العالى فى ذاكرة المصريين أنه جاء متسقاً مع فلسفة حضارتهم القديمة القائمة على البناء والتعمير. وهذا هو السر الرابع.

التجانس هو سمة من سمات الشخصية المصرية، ليست لدينا طوائف ولا فئات ولا أقلية وأغلبية، المصريون سبيكة واحدة متشابهة فى الملامح والصفات، مثلما تتجانس وتتشابه أحجار الجرانيت المقام بها السد العالى والتى تم قطعها من نفس الجبال التى تحوط المنطقة لتسكن فى هدوء ودعة فى مكانها. من هنا جاء التوافق والاهتمام من المصريين ببنائهم الأثير الذى يشبههم فى تجانسهم. وهذا هو السر الخامس والأخير.


مواضيع متعلقة