«حتى فى أحضان الحبايب شوك يا قلبى».. حكايات من دفتر الشيخوخة: آخر خدمة الأهل.. دار مسنين

كتب: أسماء زايد ونجلاء فتحى

«حتى فى أحضان الحبايب  شوك يا قلبى».. حكايات من دفتر الشيخوخة: آخر خدمة الأهل.. دار مسنين

«حتى فى أحضان الحبايب شوك يا قلبى».. حكايات من دفتر الشيخوخة: آخر خدمة الأهل.. دار مسنين

لم يجدوا من يحنو عليهم بعد نكران أولادهم وذويهم لهم ولكل التضحيات التى قدموها من أجلهم، فتركوهم بين جدران دور الرعاية التى لم تضق بهم ذرعاً، لقد تعددت الأسباب لكن النتيجة كانت واحدة «عجائز بلا أهل».

«الوطن» التقت عدداً من المسنين داخل دار «معاً لإنقاذ إنسان»، فأكدوا أنهم عانوا كثيراً من الفراق وتفتت شمل العائلة، إما لظروف المرض أو لظروف اقتصادية أو عصيان وعقوق، وأبدوا رغبتهم فى رؤية أولادهم وذويهم رغم ما ارتكبوه من تصرفات مشينة معهم.

على منضدة داخل الدار، جلس (رجب. م)، 60 عاماً، بجسده النحيف ممسكاً بساقه المبتورة، ليروى لنا حكايته قائلاً: «عندى 5 أولاد منهم اتنين متعلمين فى كلية الحقوق وشغالين محامين، وزوجتى توفيت وكنت كاتب الشقة اللى ساكنين فيها باسمها، وبعد ما ماتت ولادى رمونى فى الشارع وباعوا الشقة».

وتابع: «ولادى كلهم متجوزين وليهم بيوتهم، وعند زيارتى لهم زوجاتهم بيتخانقوا معاهم وعاوزينى أمشى، آجى أروح للبنات أزواجهم يتخانقوا معاهم بسببى لحد ما نزلت الشارع، وأصبت بجلطة من الزعل ورُحت المستشفى قالوا لى لازم رجلك تتبتر وفعلاً بتروا رجلى».

وأضاف: «فى المستشفى سألوا على بيتى قلت لهم ماليش بيت وولادى ماحدش فيهم وافق ييجى ياخدنى، فأطباء المستشفى كلموا حد جه أخدنى وألحقنى بهذه الدار، ومن ساعتها وأنا موجود من 3 سنين وعايش لحد ما أيامى تخلص ومفيش حد من ولادى بييجى يزورنى».

{long_qoute_1}

وتابع بنبرة حزينة: «ليا معاش من الحكومة 360 جنيه كل شهر وبسبب بتر رجلى مش قادر أروح أصرفه من سنة، وقالوا لازم أستلمه بنفسى، وكنت مأجّر محل فى الوكالة ولادى أخدوه مع البيت، والدنيا خلاص صغرت أوى فى عينى وندمان إنى خلفت وربيت وكبَّرت وعلمت وفى الآخر اترميت فى الشارع، وباقضى يومى قاعد على الكنبة معظم الوقت لأنى مش قادر أمشى على رجلى، والدار بتعمل لنا حفلات وأعياد ميلاد وبنتفرج على التليفزيون، ولما أحب أنام بنام فى أى وقت والدوا باخده فى مواعيده، وفيه ناس غريبة بتيجى تزورنا لكن مش قرايبى، ومدير الدار وعدنى بتركيب طرف صناعى علشان أقدر أمشى».

وقال (عبدالناصر. م)، 62 عاماً: «كنت أقيم فى منطقة بشبرا، وتعرضت لحادثة كبيرة نتج عنها إصابتى بالعجز وعدم قدرتى على المشى بشكل سليم، وبعدها بدأت رحلتى مع الألم»، مضيفاً: «قاعد فى الشارع من سنين جنب الجامع، وماحدش اهتم بيا وإخواتى ماسألوش عليا وكل واحد فيهم بيقول يلا نفسى، وأمى ماتت وأنا لسه فى اللفة، صعبت عليا نفسى من مرمطة الشوارع وعجزى وماحدش بيشيل حد والزمن اتقل خيره».

وتابع: «عندى أخين وأخت وكل واحد منهم مشغول بحياته وولاده وقعدت عند أخويا فترة بس هو عنده 5 أولاد غير زوجته وماقدرش يتحمل حمل إضافى عليه فتركته، وأهل الخير ودونى دار مسنين ولما جيت الدار قاموا بالذهاب معى إلى أحد المستشفيات وعملت أشعة على رجلى وبعض التحاليل، والآن أذهب إلى المستشفى مرتين أسبوعياً لمتابعة العلاج الطبيعى، وكل من فى الدار أصبحوا بمثابة إخوتى، وبنقعد نحكى لبعض وجعنا وفيه ناس بتغنى وتسلينا وبنصلى دايماً واللى مابيعرفش بيتعلم، ومفيش حد من أهلى فكر يزورنى، والإخصائيين بيجبرونى على أخد الدوا فى ميعاده، وبيحبونى أكتر من أهلى».

تتوالى الحكايات المسجلة فى ذاكرة الألم حول نكران التضحيات، ليروى لنا «مصطفى ع. م» 56 سنة، وكان يعمل محامياً، قصته بالدموع، قائلاً: «زوجتى طردتنى للشارع، بعدما أصبت بمرض فى قدمى منعنى من العمل، ونزلت قعدت فى الشارع غصب عنى رغم مرضى بعدما خيرتنى زوجتى بين العمل أو ترك المنزل ولدىّ بنت وولد لم تتجاوز أعمارهما 14 عاماً، وأصحاب العمل رفضونى بسبب مرضى».

وتابع: «لا أعرف أى شىء عن أولادى حتى الآن، ووحشونى ونفسى أشوفهم، رغم أنى عارف مكان سكنهم فى مصر الجديدة، إلا أن زوجتى ستطردنى، حياتى بقت زفت، وماحدش بيسأل عليا، وباتمنى أموت بدل بكائى على كسرتى كل يوم، لأنى لم أقصر مع زوجتى وأولادى يوماً ما، وربنا ينتقم منها»، مشيراً إلى أنه أصيب بجلطة بعد صدمته فى زوجته، وإجباره على بيع الشقة لها، وحاول التواصل مع ابنته إلا أن زوجته منعتها من الاتصال والتواصل معه، مضيفاً: «عيالى وحشونى جداً ونفسى آخدهم فى حضنى».

وأوضح أنه يستيقظ يومياً يصلى ويتناول الإفطار ثم يجلس مع باقى النزلاء «بيلعبوا كورة وبيطلعوا رحلات بس ظروف مرضى تمنعى من الاشتراك معهم»، مؤكداً أنه دائم التفكير فى أولاده ليل نهار.

وأشار (محمد. م)، 82 عاماً، إلى أنه لجأ إلى دار لإيواء المسنين، بعدما أصيب بعدة أمراض ولم يجد من أقاربه من يقوم برعايته، قائلاً: «كان نفسى يكون عندى أولاد بس بعد اللى باشوفه الدنيا قل خيرها، وماحدش بيحترم الكبير والأولاد قلبهم جمد على آبائهم إلا من رحم ربى».

وتابع: «لم أتزوج وجئت من سوهاج منذ سنوات طويلة بسبب ظروف عملى كنقاش، ولفيت بلاد كتيرة، ولما عجزت مالقتش اللى يقف جنبى ولا أهل ولا قرايب، فقررت بيع منزلى الصغير، وأسكن فى دار مسنين بعد إصابتى بالضغط والسكر، وكنت بادوخ فى الشارع علشان ألاقى اللى يدينى علاجى وياخد باله منى، وأهلى الله يسامحهم ماحدش بيسأل فيا، والمرض مسك فيا ومش عاوز يسيبنى وخفت أموت لوحدى فى البيت». مضيفاً: «جيت دار (معاً) علشان عرفت أنها مش بفلوس، وباقعد أرسم وأصلى وأغنى، وجبت طبلة كانت معايا بقعد أغنى وأقول مواويل، وبصلى بالناس الموجودة فى الدار وبخفف عنهم بالطبلة ومدح النبى».

وعلى كرسى متحرك جلس (محسن. ع)، 64 عاماً، ودموعه لم تنقطع، فحكت لنا «حنان» الإخصائية الاجتماعية المرافقة له بالمؤسسة، أنه أصيب بجلطة أفقدته النطق منذ 4 سنوات بعدما طرده أولاده الأربعة من المنزل وأجبرته زوجته على الطلاق، وتزوجت آخر، قائلة: «مراته وأولاده كانوا بيضربوه».

وأضافت أن الدار حاولت أكثر من مرة الاتصال بأولاده لاستضافة والدهم ورعايته، قائلة: «كل ما نسلمه لبنته ترميه فى الشارع وقالت لنا أنا مش هاقدر على مصاريفه ورعايته ومعاشه وقف، وطول الوقت يبكى بحرقة، وصدمته فى أولاده وزوجته فاقت الخيال، وكل مايفتكرهم يبكى، رغم إن بنته طردته ورمته وسط القمامة فى الشارع، وماحدش بييجى يزوره وإحنا بنعوّضه عن أولاده، ومفيش حد من أهل النزلاء بيسأل عليهم»، مضيفة: «فيه واحد مات من يومين كلمنا ابنه لما كان تعبان ييجى ياخده، قال لنا: لما يموت ابقوا كلمونى».


مواضيع متعلقة