ماذا جرى للمصريين؟

عندما كان «عام 2013» يدق باب مصر، كان الكثير من المصريين يضربون كفاً بكف ويسألون: وماذا بعد؟ لقد أخذوا بيد الإخوان إلى كراسى السلطة، وحققوا لهم حلم «التمكين» الذى عاشت «الجماعة» تتحدث عنه وكلها ثقة فى أنه لن يتحقق! حتى فاجأهم المصريون حين وضعوهم على المحك، ووصلوا بـ«محمد مرسى» إلى قصر الحكم، على أكتاف ثورة ركبها الإخوان ولم يؤمنوا بها. لم يطُل أمد التفكير لدى المصريين كثيراً، فسرعان ما قرروا أن «مرسى» وجماعته لا يصلحون، والمصرى إذا أراد فعل، إنه ليس كالإخوان يثرثر كثيراً ويعلو صوته بالجعجعة بلا طحين، لأنه يفهم معنى الإنجاز. استقر عقل ووجدان المصريين على ضرورة الانقلاب على الإخوان، وبذكائه المعهود استطاع الشعب أن يراجع الكثير من ثوابت نظرته إلى هذه «الجماعة» التى ظلت سنين تتاجر عليه بـ«قال الله وقال الرسول»، وما إن وُضعت على المحك وامتحنها الشعب بالسلطة حتى رسبت بالثلث، فكان أن أصر الشعب على إسقاطها، بيد المصريين ارتفعت «الجماعة» إلى أعلى عِليين، وبيد المصريين تم ردُّها إلى أسفل سافلين!. سقطت «الجماعة» لأنها لم تفهم «الانقلاب» الذى أصاب حياة المصريين بعد ثورة يناير 2011، والذى كان جوهره رفض فكرة «الدجل» بكل صنوفه وأشكاله. الدجل باسم «الدين» لم يعُد ينطلى على المواطن، «الذقون» المجللة بالشيب أو «الخضاب» لم تعد تثير احترامه، بعد أن اكتشف أن كلام أصحابها محشو بالكذب والزيف والنفاق والرغبة فى التسلطن على كراسى السلطة والرشف من رحيق الجاه والمال، أما ملايين الفقراء، فلم يكونوا أكثر من وقود لحصد الاستحقاقات الانتخابية الواحد تلو الآخر، لم يكن الكثير من المصريين أكثر من قاطرة تشد أصحاب اللحى، الذين يتلون كلام الله ورسوله دون أن يجاوز حناجرهم، نحو الحكم. فطن الشعب بسرعة إلى «الملعوب» الإخوانى فقرر الإطاحة بجماعة لم تستطِع، بسبب مرضها بـ«غباء مزمن»، أن تفهم أن أسلوب تفكير المصريين أصابه «انقلاب»، ولم يعد بإمكان داعية أو قطب أو درويش أو جماعة الاستخفاف بعقلهم باسم «الدين». انقلبت المحافظات التى حصد فيها الإخوان أعلى الأصوات فى انتخابات «الشعب» و«الشورى» و«الرئاسة» إلى كتل بشرية متراصّة تهتف بسقوط «حكم المرشد». الملايين التى منحت أصواتها المؤيدة للدستور الإخوانى لم يعد بإمكان «الجماعة» الضحك عليها بـ«بقرة الاستقرار». صرخ الشعب «المنقلب» فَلْيَسْعَ وراء «البقر» من يعبدون «البقر». لقد تحلل الشعب بكل أطيافه من قيود الدجل.. انتفض فجأة حزب «الكنبة» الذى لم يكن يهوى المشاركة فى الفعاليات الجماهيرية وأخذ يحرض بعضه بعضاً على النزول من أجل إسقاط حكم «مرسى» وجماعته.. أقباط مصر لم يعد يخيفهم إرهاب الإخوان وذيولهم، انقلب من كان يؤثر السلامة منهم إلى صوت هادر مع المسلمين المصريين فى كافة الشوارع والميادين.. المرأة المصرية لم تعد كما كانت تمكث فى الانتظار حتى يتحرك الرجال لتنزل وتشارك، انقلب أداؤها فأصبحت تصرخ حين يصمت الرجال، وتنزل حين يفضل بعضهم الكسل عن حمل عبء المواجهة، فشرعت تقود الشارع.. كل هذا كان يحدث تحت سمع وبصر الإخوان، ولكن أنّى لمن عميت قلوبهم وتعامت أبصارهم أن يدركوا الانقلاب الذى أصاب حياة المصريين.. كذلك المغرور الجاهل لا يدرك الخطر إلا حين يدهمه. الفنانون ولاعبو الكرة، الذين كان يحجم أغلبهم عن الحديث فى السياسة، أصبحت السياسة حياتهم، أصابهم الانقلاب الذى طال المصريين جميعهم، فخرجوا لقيادة المظاهرات -مع غيرهم- للمطالبة بدولة مواطنة، يعلو فيها العقل على الدجل، والمواطنة على التمييز، والوطن على جماعة ضالة، والفن على السفه.. رسالة واحدة كان يحملها الكل، ملخصها «مصر فوق الجميع».. مصر التى ضاعت فى غمرة الضلال لا بد أن تسترد وعيها وروحها.. من لم يفهم «الانقلاب» الذى أصاب عقل ووجدان المصريين ليس منهم، لا بد أن يرحل. لم يعد المصرى يخاف أحداً.. لقد أسقط فكرة الرعب من الحاكم منذ يناير 2011.. انقلب المصريون، وآن للحاكم أن يخاف من الشعب، أما الشعب فلم يعد يخيفه أحد.. اندفع الشباب «أيقونة» ثورة المصريين إلى الشوارع.. ومن خلفه خفّ الكبار فأصبحوا بالوعى الجديد وبالروح الجديدة التى تمتعوا بها بعد الثورة «أشبّ» من الشباب. كذلك المصرى عندما يؤمن بنفسه إنه يستطيع أن يفعل المستحيل. خرجت «الدقون» قبل ساعات من «30 يونيو» تهدد وتتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور، فقابل الشعب تهديدهم ووعيدهم بالسخرية. اعتلى الإخوان وذيولهم منصتى «رابعة» و«النهضة» وخرجوا يتحدثون عن التفجيرات والاغتيالات وتسميم حياة المصريين، صرخوا فى وجوه الناس «جئناكم بالذبح»، ضحك الشعب الحكيم منهم، ثم حانت اللحظة التى نزل فيها ملايين المصريين إلى الشوارع يوم 30 يونيو، وما هى إلا ساعات حتى انتهى الشعب من أمرهم، فرحل «مرسى» وجماعته، وهم يقلبون أكفّهم ويسألون: هل هؤلاء هم المصريون الذى صبروا على ظلم «مبارك» سنين عدداً، الذين عاشوا «زمارة تلمهم وعصاية تفرقهم»، ألم تُخِفهم هذه الجموع بوجوهها المتجهمة وعيونها التى نسجتها القسوة؟. من جديد لم يفهم الإخوان «الانقلاب» الذى أصاب حياة المصريين. كان مشهد «مرسى» وهو يخيّر المصريين بين «الاستقرار فى الحكم» أو «الدم» يثير تعجبهم من هذا «البليد» الذى لم يتعلم من سلفه حين خيّر المصريين بين «الاستمرار فى الحكم» أو «الفوضى». لم يستوعب «مرسى» وجماعته درس الأحذية التى رفعها المصريون وهم يستمعون إلى هذا الكلام. لم يفهم معنى أن «يعطّل» المصرى لغة «الكلام» ويخاطب من يغضب عليه بـ«لغة الحذاء».. إنه الانقلاب الذى أصاب المصريين فى لحظة قرروا فيها أن يعلموا العالم من جديد، أن يخطّوا بتجربتهم سطوراً مضيئة تحمل للعالم دروساً جديدة فى معنى الإرادة. والويل لمن لا يفهم أن المصريين «شعب مجرب»، مارس الحياة عبر آلاف السنين، زالت دول، واندثرت أمم، وسقطت ممالك، وراح حكام، واحتوى التراث ملوكاً وقياصرة وأكاسرة، وما زال هذا الشعب باقياً يباهى الحياة بـ«عبقرية الحياة».. إنه الانقلاب الذى أزال تراب السنين من فوق أكتاف المصريين فأحالهم إلى شعب جديد قاد ثورة يناير ثم «30 يونيو»، أسقط رئيساً مدعوماً بآلة قمعية عاتية، وآلة إعلامية قادرة، ودولٍ كبرى وأخرى إقليمية تدافع عنه، فى ثمانية عشر يوماً، لم يتعلم «مرسى» الذى خلفه فى الحكم الدرس، فكان أن انقلب عليه الشعب وأسقطه فى أربع وعشرين ساعة.. وأبشّر أى رئيس سوف يحكم هذا الشعب مستقبلاً بأنه إذا لم يستوعب معنى «الانقلاب» الذى أصاب حياة المصريين فإنه لن يحتاج أكثر من ست ساعات حتى يتخلص الشعب منه. وعلى من يشك فى ذلك أن يقرأ صفحات هذا الملف حتى تتأكد له هذه الحقيقة. «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».