«.. وما زال يعيش على مقهى ريش»!

محمد الشبه

محمد الشبه

كاتب صحفي

أعترف.. أكتب هذا المقال من وحى حوار غير ممتع على الإطلاق مع شاب غاضب تفصل بينى وبينه ثلاثون عاما من العزلة والغربة الثقافية والسياسية.. ثلاثون عاما هى عمر الغضب وميراث جعجعة المثقفين وحسابات وصفقات السياسيين! - إحنا خيبتنا فى نخبتنا يا أستاذ!.. باغتنى الشاب بهذه العبارة وسط الكلام بينما كنت أستفيض وأسترسل فى الحديث عن مسئولية الشباب الثورى فى هذه المرحلة الدقيقة وكيف أنه لا بد أن يحسب خطواته ويحدد خياراته حتى لا يُستغل لخدمة مؤامرة الإخوان لتقويض الدولة.. إلخ.. تلعثمت وتوقفت فجأة لأسأله ماذا يقصد؟ فأجاب بلسان صديقى وزميل السجن أيام انتفاضة طلبة السبعينات، شاعر الشعب الراحل أحمد فؤاد نجم قائلا: «يعيش المثقف على مقهى ريش.. محفلط مزفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة عدو الزحام.. بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح يفبرك حلول المشاكل قوام»، واستطرد الشاب: «حال المثقفين والسياسيين على ما هو عليه يا أستاذ.. لا شىء تغير من الجوهر». - قلت: إزاى؟ قال: أقولك إزاى.. خد عندك مثلا معركة الدولة التى «حكمها مدنى» أم «حكومتها مدنية» والتى فجرتها الديباجة الساذجة العجيبة للدستور، هل الشعب طرف فى هذه المعركة؟ فى أى دولة محترمة تعيش صراعاً وحواراً سياسيا حقيقيا لا بد أن يكون الشعب هو الحامى الأكبر لمدنية الدولة، الشعب هو الذى يكتب دستوره يا أستاذ وليس مشايخ حزب النور اللى خاف منهم عمرو موسى وبهوات لجنة الخمسين! قلت: ومع ذلك المنتج النهائى للدستور شىء رائع وهو على أى حال أقصى ما قدر عليه هذا الجيل.. أكملوا أنتم المشوار وغيروا الدستور فيما بعد من خلال نضال سياسى حقيقى و.. قاطعنى بحدة: نضال سياسى! مع من.. مع العسكر والإخوان؟! قلت: معهم ومع غيرهم.. أنتم أحرار.. قال: الآن تقولون إننا أحرار.. تهربون من الواقع المرعب الذى صنعتموه وأورثتموه لنا.. ثنائية العسكر والإخوان، فريق يحكم أو يكاد، وفريق آخر نصفه فى السجن ونصفه فى الشارع بعد أن ارتكبتكم خطيئة اعتباره ملفا أمنيا فقط.. قلت متألما: نعم أخطأنا، دخلنا الكهف ثلاثين عاما وتركنا مبارك ووزراء داخليته يتعاملون بقبضة الأمن وليس بسلاح الفكر مع جماعات الإرهاب السياسى باسم الدين، تركنا السلطة الجاهلة تفعل ما تريد وارتحنا فى أحزابنا الهشة وجلسنا على نواصى الكلام، الآن فقط نحن نعرف حجم الخطأ، كان علينا أن ننزل الشارع ونطلب من الشعب أن يحمى بلده من دعاة الظلام وأعداء التكفير. - قال الشاب منتهزا إحساسى بالندم: كنتم طول الوقت أساتذة فى صناعة تماثيل العجوة، أصنام وهمية صنعتموها وتركتموها تكبر وتستفحل، عبدتموها، ثم التهمتموها، وتطلبون منا الآن تحطيمها. - قلت مصححاً: خذ بالك أنت تستخدم كلمة العسكر فى السياق الخاطئ، مصر لم تعرف فى تاريخها الحكم التقليدى للعسكر، المؤسسة العسكرية المصرية وطنية وصانعة للدولة المدنية وحامية لها منذ عهد محمد على، ورأيى أن المشكلة تكمن بالأساس فى نفوذ المؤسسة العسكرية وليس فى نواياهم للحكم، أما حكاية أصنام العجوة فهى عادة مصرية قديمة، نعم.. نحن خبراء فى صناعة «البعبع»، نرسمه فى خيالنا لنخاف منه. - قال الشاب وهو يتهيأ لضربة قاضية: دائما ترتاحون بتعليق أخطائكم على شماعة الشعب، مفيش حاجة اسمها «عادة مصرية قديمة»، أنتم تركتم هذا الشعب يغرق فى جهله لسنوات طويلة. وهنا.. توقف الكلام فى حلقى.. ألقيت أسلحتى، وسألت نفسى أصعب سؤال: هل من حقنا أن نلوم هذا الشباب الغاضب؟! يبقى أن أعترف لك عزيزى القارئ أنى شخصيا كنت محور الدراما الإنسانية فى هذا الحوار، فأنا ذلك الشاب الغاضب، وأنا -للأسف- هذا الأستاذ!