«مصر الضمير»: فجر العدالة والديمقراطية.. وصاحبة أول دستور بشرى

كتب: رضوى هاشم

«مصر الضمير»: فجر العدالة والديمقراطية.. وصاحبة أول دستور بشرى

«مصر الضمير»: فجر العدالة والديمقراطية.. وصاحبة أول دستور بشرى

على ضفاف نهر عظيم كانت حضارة عظيمة، بُنيت دعائمها على الحق والعدالة، قبل أن تبنى على معابد وصروح، حضارة علمت العالم الأخلاق، ومنها خرج أول دستور وطبق القانون بعد شكاوى فلاح فصيح كانت رسائله مقصد الأدباء، ومن أرضها كان فجر الضمير.

{long_qoute_1}

قال الدكتور الحسينى عبدالبصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، إن مصر القديمة هى التى ابتدعت الضمير كأول دستور أخلاقى فى العالم، وتشهد على ذلك الكتب الدينية العديدة والأعمال الأدبية الجميلة والفنية البديعة المقبلة إلينا من مصر القديمة، ويشهد على ذلك أيضاً عالم المصريات الأمريكى الأشهر، هنرى بريستد، أستاذ المصريات بجامعة شيكاغو الأمريكية، مؤسس المعهد الشرقى بجامعة شيكاغو.

ويقدم «بريستد» فى كتابه المهم «فجر الضمير» تصوراً شاملاً عن الحضارة المصرية القديمة ونشأتها وأبرز سمات هذه الحضارة وهى الأخلاق أو الضمير وأثبت أن ضمير الإنسانية بدأ فى التشكل فى مصر قبل أى بلد فى العالم كله منذ أكثر من خمسة آلاف عام من الآن. ويقول مترجم هذا الكتاب الفريد، عالم المصريات المصرى الأشهر، الدكتور سليم حسن: «فى مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنسانى وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية، وتطور الأمر منذ أقدم العهود الإنسانية إلى أن انطفأ قبس الحضارة فى مصر نحو عام 525 قبل الميلاد»، وهذا هو تاريخ الاحتلال الفارسى الأول لمصر على يد القائد الفارسى قمبيز، وقد حاول الفرس طمس الهوية المصرية قبل أن تتحول مصر إلى مملكة بطلمية يحكمها الغرباء».

وتابع «عبدالبصير»: «صار الإنسان أول مخترع للأسلحة، وعلى ذلك بقى مليون سنة يحسن هذه الآلات، ولكنه من جهة أخرى لم يمض عليه إلا أقل من خمسة آلاف سنة منذ أن بدأ يشعر بقوة الضمير إلى درجة جعلته قوة اجتماعية فعالة، وطوال مليون سنة طور أدواته، ومن ضمنها السلاح، وهذا السلاح بدأ بـ«البلطة»، وانتهى بالقنابل الذرية والقذائف المدمرة، فإذا كان الإنسان من مليون سنة يستطيع تحطيم رأس إنسان آخر بهذه «البلطة»، فإنه الآن يقدر أن يبيد الآلاف من البشر بقنبلة واحدة فى ثوان معدودات، أما الأخلاق ورقيها، فقد بدأت تتشكل منذ 5000 سنة فقط على ضفاف نهر النيل فى مصر أرض الحضارة والقيم والتاريخ، ومن يقرأ قوانين «ماعت» الـ42 التى تعتبر أول دستور وضعه الإنسان فى التاريخ يكتشف أنها مكتوبة على لسان أرواح الموتى، الذين انتقلوا إلى العالم الآخر، وهم ينتصبون واقفين فى قاعة الماعت «العدل» يوم الحساب، أى إن تلك القوانين لم تُفرض على الإنسان من الخارج، إنما نبعت من داخله والسّر فى ذلك وجود الضمير بداخله، وهو جوهر الفضيلة، فكل ما عليه هو إعمال الضمير فى جميع شئون حياته، وهذا ما فعله قدماء المصريين، فكانت مبادئ «الماعت» هى الدليل للعيش فى المجتمع المصرى القديم، وكانت واجبة النفاذ من قبل الحاكم والشعب بلا استثناء، وكانت الإلهة المصرية «ماعت» تُمثِّل الحقيقة والعدالة والنظام فى الحياة الدنيا والآخرة».

وأكد «عبدالبصير» أن قوانين «ماعت» مُلزِمة لجميع قدماء المصريين من أصغر فلاح وحتى رأس الدولة، وحين يفقد الإنسان «ماعت» الاستقامة يصبح مقيداً بالأغلال، ويكون السبب الرئيسى فى ذلك جهله بالإلهة «ماعت» ومن ثَم يفقد حياته الأبدية، ولقد حرص المصرى القديم على قوانين «ماعت» ضماناً لوصوله إلى نعيم الحياة الأبدية فمن التزم الأخلاق القويمة والسلوك المستقيم خلال حياته فقد تمثلت فيه قوانين «ماعت»، التى وجدت مُدوّنة فى كتاب «الخروج إلى النهار»، واستمدت من تعاليم الحكماء «بتاح حتب»، و«كا جمنى»، و«مرى كا رع»، وإن دلت تلك التعاليم فإنّما تدّل على شىءٍ واحد وهو إعلاء قيمة الفضيلة فى مصر القديمة منذ فجر التاريخ.

وقال «عبدالبصير»: من الأعمال الأدبية المهمة التى جاءت لنا من مصر القديمة، وتؤكد على عظمة القيم الأخلاقية والضمير الإنسانى فى مصر القديمة، بردية إيبو ور، وهى واحدة من أروع الأعمال الأدبية فى مصر القديمة، المعروفة بـ«معاتبة إيبو ور» أو «حوار بين إيبو ور ورب الكل»، وهى محفوظة فى المتحف الوطنى الهولندى للآثار فى ليدن، بعد أن تم شراؤها من «جيوفانى أنستانى»، القنصل السويدى فى مصر فى 1828 ويرجع تاريخ البردية إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ويصف هذا العمل الأدبى الفريد التحول المجتمعى فى مصر القديمة بعد نهاية عصر الدولة أو عصر بناة الأهرام.

وأضاف: «من بين الأعمال الأدبية المميزة، التى توضح عظمة مصر ودعوتها الخالدة للتمسك بالعدل والحق وإنقاذ المظلوم مهما كانت مكانة الظالم، ما نعرفه بـ«شكاوى القروى الفصيح». وتعد «شكاوى الفلاح الفصيح» من عيون الأدب المصرى القديم وهى قصة مصرية قديمة عن قدوم فلاح مصرى قديم يدعى «خو إن- إنبو» من منطقة وادى النطرون، إلى منطقة إهناسيا فى بنى سويف مصر الوسطى وعاش فى العصر الإهناسى وتبدأ القصة بتعثر الفلاح «خو إن- إنبو» وحماره فى أراضى النبيل «رنسى بن مرو»، فاتهمه المشرف على الأرض «نمتى نخت» بإتلاف الزرع الخاص بهذه الأرض، وبأن حماره أكل من زرع النبيل، فأخذ المشرف الحمار واعتدى على الفلاح وذهب «خو إن- إنبو» إلى النبيل «رنسى بن مرو» بالقرب من ضفة النهر فى المدينة، وأثنى عليه، وبث له شكواه، فطالبه النبيل بأن يحضر شهوداً على صحة كلامه إلا أن «خو إن- إنبو» لم يتمكن من ذلك، غير أن النبيل أعجب بفصاحة الفلاح، وعرض الأمر على الحاكم وأخبره عن بلاغة الفلاح، فأعجب الحاكم بالخطاب.

الحسينى عبدالبصير


مواضيع متعلقة