نبيل عمر يكتب: وصف مصر ورحلة خاصة فى عالم الجريمة

نبيل عمر يكتب: وصف مصر ورحلة خاصة فى عالم الجريمة
- عالم الجريمة
- جرائم القتل
- كتاب وصف مصر
- جرائم
- جماعة الإخوان الإرهابية
- عالم الجريمة
- جرائم القتل
- كتاب وصف مصر
- جرائم
- جماعة الإخوان الإرهابية
مثل صاعقة ضربت الأرض فجأة برقت فكرة كتاب (وصف مصر بـ«الجريمة») فى عقلى قبل ثلاثين سنة تقريباً، كنا فى نهاية الثمانينات حين نشرت صحف القاهرة ذات صباح خبراً ذا عناوين مثيرة للغاية، مقتل ضابط وجندى بقرية الأخماس فى محافظة البحيرة، وقوع اشتباكات مسلحة بين قوات الشرطة وعائلة اعتدت على أرض الدولة.
قرأت الخبر مرات وقلبته على كل جوانبه، لم أستسغه أو بمعنى أصح لم أصدقه، فليس من المألوف أن تتهجم عائلة ليس لها أى سجل إجرامى على رجال الشرطة بالبنادق والرشاشات «عينى عينك»، صحيح أن الجماعات الإرهابية المنتقبة بالدين عَبَدَّتْ طريق العنف وسهلت فكرة التجرؤ على الدولة نسبياً، وارتفعت بهما إلى حد اغتيال رئيس الجمهورية وسط جيشه يوم احتفاله بعيد نصر أكتوبر فى عام ١٩٨١، لكن ظلت التقاليد المصرية تحترم الشرطة وتعمل حسابها وأحياناً تبالغ فى تقدير هذا الحساب، فكيف لهذه العائلة أن تقتل ضابطاً وجندياً وهى تعلم أن وزارة الداخلية لن تسكت وسوف تقلب الدنيا عليها وتطاردها بلا هوادة إلى نهاية العالم؟
جمعت أغراضى وطرت إلى قرية الأخماس، الواقعة بعد الخطاطبة على الضفة الشرقية للرياح البحيرى، وقتها كانت تابعة لمركز كوم حمادة قبل أن تلحق بمدينة السادات منوفية، وجدت الدنيا مولعة وطلقات الرصاص لا تكف عن الدوى وقوات الشرطة تحاصر العائلة المتهمة بالقتل فى الجبل الغربى.
ورحت أتقصى الحقيقة التى كانت مفزعة، العائلة المتهمة بالقتل جانية ومجنى عليها فى الوقت نفسه، والقاتل الفعلى هو «الفساد»، فساد الذمم وفساد الإجراءات، الفساد هو الذى أمسك بالبندقية ونشن على صدر الضابط ورأس الجندى، والمتهمون فقط حسب الأقوال هم الذين داسوا على الزناد.
يا الله.. لقد تجاوز الفساد النهب والاختلاس والرشوة والعمولات والأغذية منتهية الصلاحية والعقارات المخالفة وبيع ملفات قضايا إلى سفك الدماء والقتل العمد، صار وحشاً كاسراً لا يكتفى بالتهام الملايين والمليارات من عرق المصريين وثرواتهم، بل يقتل بدم بارد أو مالح.
{long_qoute_1}
والحكاية أن «عائلة لها بيوت متناثرة غرب الرياح البحيرى فى عزبة مشحوت، صدقت كلام الحكومة، بأن من يستصلح أرضاً صحراوية يمتلكها، وبالفعل وضعت يدها على ١٢٠ فداناً من الصحراء الجرداء غرب بيوتها بمسافة، وباع الرجال مصاغ الحريم، وراحوا يستصلحون الأرض قيراطاً قيراطاً حتى زرعوا ٢٤ فداناً منها، موالح ومانجو وطماطم.
فى ذلك الوقت عاد واحد من أهالى القرية من الخليج، وزاغت عيناه على الأرض وذهب إلى إدارة الأملاك بالبحيرة، ودفع ثمنها بمساعدة موظف من إياهم، وهذا الموظف نفسه رفض إجراءات البيع للعائلة قائلاً لهم: «لما نعمل للأرض مسح على الطبيعة».
وانتهى الأمر بحكم محكمة بتسليم الأرض لمن أنهى إجراءات الشراء الرسمى أولاً، لكن العائلة التى زرعت وتعبت رفضت الرضوخ للفساد وقال أهلها: نموت فى الأرض ولا نتركها.
وقُتل الضابط والجندى خلال محاولة التسليم برصاصات قادمة من بعيد، وصعد رجال العائلة إلى الجبل هاربين.
منذ ذلك اليوم وفكرة (وصف مصر بـ«الجريمة») لا تفارق خيالى.. ورحت أنتقى من الجرائم ما أتصورها «مرايات عاكسة» لأحوالنا العامة وليست مجرد حالات فردية تصف خللاً فى نفسية الجناة والضحايا.
وقد نؤمن أن الفرد لا يولد شريراً ولا جشعاً، والانحراف تسببه فى الغالب نواقص ومثالب فى البيئة المحيطة به، وعدم تهيئة الجو النفسى والمناخ الملائم لتربيته وتوجيهه ورعايته بصورة سليمة.
ويصف نفر من علماء الاجتماع الجريمة بأنها مثل جنين عشوائى يقتات على كل العيوب الجينية والاجتماعية التى يتوارثها الفرد عن أجداده وأبيه، جنين ينمو بالتدريج كائناً مشوهاً.
وقد نتوقف كثيراً عند نظرية الخلل الجينى الذى يصيب بعض البشر، وهو خلل مجهول الأسباب علمياً، وتبدو نظرية لها منطق ممتد فى الزمن، ولنا فى جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل عبرة، فهى أول جريمة مسجلة فى التاريخ الإنسانى، قد نعرف دوافعها ولكن لا نقبلها ولا نفهمها، وقد يرى بعضنا ضعفاً ووهناً فى هذه الدوافع ولا يستسيغها، فكيف لأخ أن يقتل أخاه لمثل هذا السبب العاطفى الواهى، وهو أن يتزوج امرأة ليست من حقه؟ وهل الغيرة والحسد من أخيه تؤديان إلى معصية القتل الأول؟ الجريمة تبدو هنا كما لو أن قابيل ولد مجرماً أو وارثاً العنف و«الإجرام»، وهنا نسأل: متى حدث الخلل الجينى فيه وكانت الحياة على الأرض فى باكورتها؟ خلل دفعه لأن يقتل دون أن يحرضه إنسان آخر أو تزن فى أذنيه أنثى ساحرة، أو يقلد عنفاً رآه فى أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون.. قتله والسلام حتى لو لم يقصد، لأن العنف مثل الجنون حين يتلبس الإنسان لا يستطيع السيطرة على حدود تصرفاته.
{long_qoute_2}
والجريمة فى مصر مثل مصباح ديوجين تنير المسالك والدروب والممرات إلى قاع المدينة أو العالم السرى فى نفوس المصريين، هى صندوق القمامة العام، التقليب فيها يرسم صورة هؤلاء الذين يلقون بها، صورة فى كل جوانب حياتهم العامة والخاصة.
قطعاً ارتفع معدل الجريمة بشكل ملحوظ فى السنوات الأربع عقب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وحسب بيانات وزارة الداخلية كان الارتفاع ما بين ١١٠٪ فى جرائم الحرق العمد إلى ٣٥٠٪ فى جرائم السرقة بالإكراه، مروراً بالقتل والخطف والاغتصاب وهتك العرض، وكان متوسط الارتفاع ٢٠٧٪.
كان ذلك طبيعياً ومتوقعاً بعد اقتحام ما يقرب من ٣٥ ٪ من الأقسام والمراكز على مستوى الجمهورية والاستيلاء على الآلاف من أسلحة الشرطة، وهروب أكثر من ٢٢ ألف مسجون من عتاة المجرمين، وإخلاء سبيل آلاف المعتقلين جنائياً وسياسياً تنفيذاً لإلغاء قانون الطوارئ، ناهيك عن تهريب الأسلحة على نطاق واسع من ليبيا التى تفككت، كل ذلك صب فى الشارع المصرى، فقلبه رأساً على عقب.
وهذه البيئة المنفلتة حرضت على دخول مجرمين جدد إلى الساحة، حتى إن وزارة الداخلية أعلنت أن ٦٥٪ من الجرائم ارتكبها جناة جدد لأول مرة، وبالطبع ليس لهم سجل جنائى ولا تتوافر عنهم أى معلومات، ويصعب مطاردة من لا يترك أثراً دالاً عليه.
وقد أغفلتُ فى هذا الكتاب نوعين من الجرائم عمداً، هما زنا المحارم والإرهاب، باعتبارهما جرائم استثنائية جداً لها سمات خاصة، يستحسن أن ينفرد هذان النوعان بدراسات خاصة لهما، وقد زاد النوعان فى الآونة الأخيرة، ولا تتوافر إحصاءات لجرائم زنا المحارم، وإذا توافرت تعف نفسى عن التعرض لها، إذ فيها قدر من الانحطاط لا أَجِد فى نفسى المقدرة على التنقيب فى تفاصيلها، لكن بالقطع يلزمها باحث شجاع ونزيه، ليفتش فى تلك العلاقات الشاذة التى تصل إلى حد إنجاب آباء من بناتهم الصغيرات.
أما جرائم الإرهاب فترصدها الأجهزة أولاً بأول.. وهى جرائم لها مفاهيم سلفية فى الجهاد وتفسيرات غير إنسانية لنصوص دينية، ويلزمها دراسة خاصة بها، لأنها أيضاً مرتبطة بقوى خارجية وتمويلات أجنبية، وتركز كل أعمالها التخريبية على قلب نظام الحكم وتأسيس إمارة دينية على أى بقعة من الأرض، وتحتاج إلى جهد خاص مكثف وتحريات عميقة لاستجلاء كل جوانب الظاهرة دولياً وإقليمياً وداخلياً.
وبشكل عام اختار الكاتب جرائم متنوعة ترسم بدقة عوادم النظام العام فى مصر، وراح يقلب فى تلك النفايات ذات الدلالات الواسعة، ليرسم بها صورة من قاع المجتمع لشكله وأحواله فى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين، وكان مخططاً أن يستعرض ٢٥ عاماً، فإذا بالأوضاع المتغيرة تجبره أن يزيد عليها ٣ سنوات، من نهاية الثمانينات إلى نهاية 2016، وهى فترة شهدت تقلبات عنيفة وسريعة، وسيظل تأثيرها على الحياة المصرية لسنوات طويلة مقبلة.
لم يلتفت إلى الجرائم العادية المتوارثة عبر التاريخ مثل سرقة منازل أو بضائع، السطو تحت جنح الظلام، القتل بين أشقاء وأبناء عمومة مختلفين على ميراث، الدعارة فى صورتها الشائعة حتى لو اختلفت أساليبها وطرق عملها، تجارة الممنوعات أياً كان تطورها.. لأن دراسات علمى الاجتماع والجريمة أفاضت فى تتبعها ورصدها وتحليلها.
لكنه يتوقف عند جريمة قتل عمد ارتكبها مؤذن فى جامع ضد اثنين من المجرمين تنفيذاً لتعاليم الدين، وقاحة البلطجية فى التعامل مع قوات الأمن، مصرع وكيل نيابة لأنه راح يستسمح المعتدين على أرضه فى التجمع الخامس أن يرحلوا عنها وبصحبته ضابط شرطة، انتحار مواطن لم يجد ثمن علاج ابنه، أو انتحار محامٍ لأنه ضُبط ومعه تليفون محمول مسروق، قيام ستة مواطنين عاديين بقتل بلطجى بعد أن اشتكوه لقسم البوليس أكثر من مرة، أستاذ جامعة اختلس أجهزة من كليته وحاولت الكلية حمايته، جرائم العناتيل الذين يصورون علاقاتهم الخاصة على أجهزة موبايل أو بكاميرات خاصة، قتل طفلة بعد اغتصابها بإصبع يد ويقول القاتل فى التحقيقات: أنا عارف ربنا وكنت أصلى.. أو تذهب عاهرة بقدميها إلى قسم الشرطة تبلغ فى شباب قضوا معها بعض الوقت ثم تهربوا من دفع الحساب كما لو أنها تبلغ عن نفسها.. أو يقتل أب بناته السبع مع أذان الفجر خوفاً من سقوط إحداهن فى العار حين تكبر.. التحرش وقضاياه وأشكاله ونوعية مرتكبيه.. لماذا يشترى متعلمون متخرجون من الجامعات وبعضهم يشغل مراكز مرموقة «الترام» كما فعل «مبروك»، الجاهل الشهير باسم إسماعيل ياسين فى فيلم العتبة الخضراء؟!
ويا ترى ما شكل الجريمة فى رمضان ونحن نصوم ونبتهل إلى الله أن يقبل توبتنا؟
كيف يسقط مواطن فى فخ التجسس بإرادته الحرة وفى قلب القاهرة دون أن يتعلم الدرس من فيلم «بئر الخيانة» الذى لعب بطولته نور الشريف وأوصله عزت العلايلى إلى حبل المشنقة؟
ولم يفتنى أن أقف قليلاً على باب محكمة الأحوال الشخصية وأقسام الشرطة أتابع بعض قضايا الطلاق التى تكشف نفوساً وعلاقات وثقافة.. وكلها من علية القوم.
وقسّم الكاتب الجرائم حكاياتها وتفسيراتها فى سبعة فصول هى:
١- جرائم الدولة الغائبة.
٢- فساد وفساد جداً.
٣- جريمة فى نقابة الصحفيين.
٤- جرائم شرف وقلة شرف أيضاً.
٥- مجتمع مأزوم وجرائم غبية.
٦- من ملفات الأحوال الشخصية.
٧- الظلم كافر وخائن أيضاً.
لا يبقى إلا تحذير واجب، وهو يشبه التحذير الذى يصاحب أفلاماً عنيفة أو مرعبة، ألا يقع القارئ بين براثن إحباط أو صور سوداوية، فهذه سباحة فى قاع المجتمع الملوث، محاولة لرسمه بخطوط حادة موجعة، الوجع الذى يدفعنا إلى التفكير وإعادة النظر فى حياتنا، لا الشعور بالإحباط واليأس من عدم قدرتنا على تغييرها، فأمل التغيير الصحيح لا يتوقف ولا يبتعد، بالرغم من كل تغيير أصابنا فى السنوات الأخيرة كان صادماً ومحيراً، إلى درجة أن بعضاً منا يتحسس جلده ورأسه إذا سمع كلمة تغيير!
لكن قطعاً دافعى إلى هذا الكتاب هو الحض على تغيير حياتنا، مقدماً أسباباً من واقع حياتنا الخاصة جداً وتصرفاتنا فى قاع المدينة.