العراقيون فى مصر «النيل بطعم الفرات»

كتب: أحمد العميد

العراقيون فى مصر «النيل بطعم الفرات»

العراقيون فى مصر «النيل بطعم الفرات»

عن الحرب والسياسة وقصص اللجوء

ربما لأنها تشبه بلدهم فى حضارتها الأصيلة، وربما لأن نيلها الكبير القوى يذكّرهم بفراتهم، أو لأن فيها «الرجولة» و«الجدعنة» وقيم «الحفاظ على الأرض والعرض»، مثلما هو الحال عندهم، وغيرها من الأسباب التى جعلتهم يختارون مصر وطناً ثانياً لهم، فكما احتضن عراقهم الملايين من المصريين خلال الثمانينات للعمل، ها هى الآن مصر ترد الجميل لهم، باحتضان أبناء بلاد الرافدين الذين أتوا إليها باكين على وطنهم المنهار، فتفتح المحروسة ذراعيها لهم و«تطيّب خاطرهم».

جاءوا إليها بفنهم وإبداعهم، ولم يكن بينهم مخرب أو مهاجم، وفيهم من أثرى المسرح والشعر والأدب وأضاء شاشات التلفزيون، الذى كانوا هم أنفسهم أكثر مشاهديه من العرب، وحتى اللهجة المصرية لم تكن عثرة أمامهم، فقد كانوا يسمعونها كل يوم بمناطقهم المختلفة بالعراق، كما كانت مصر تعيش معهم فى منازلهم، وتطل عليهم بفنها وأغانيها ومسارحها من نافذة التلفزيون.

جاءوا وعاشوا وعمروا، ولم ينسوا هذا الحضن الدافئ الذى وجدوه فى مصر، فجاءوا بمختلف أطيافهم ومكوناتهم وكل من هرب من الفتنة ونارها، واجتمعوا هنا على الأرض التى قال عنها الله تعالى «ادخلوها بسلام آمنين»، فدخلوها تاركين الخلافات خلف ظهورهم. فى هذا الملف، «الوطن» عاشت بينهم، تسمع منهم، وتتعرف على أوضاعهم، فى منازلهم، وجامعاتهم، ومطاعمهم، لترى نتائج اللقاء المثير لأبناء بلاد الرافدين على أرض مصر.

 {long_qoute_1}

رغم إجماعهم على أنهم فى بلدهم الثانى، وأنهم لا يشعرون بالغربة حتى فى ظل وجود منغصات، بسبب الإجراءات القانونية والإقامات التى تُجدد بصعوبة بالغة، إلا أنهم تمكنوا من تجميع أنفسهم على مقاهٍ حددوها فى الحى السابع بمدينة 6 أكتوبر، ليشعروا بأنهم لا يزالون فى بلدهم ووطنهم الأصلى «العراق»، هنا يرمون حجر النرد، وهنا يشدون أنفاساً عميقة من «النارجيلة» أو «الشيشة»، تسمع لكناتهم وتعبيراتهم العراقية المميزة وكأنك انتقلت إلى بغداد: «أكو، وهسه، أنطيك، ودزيت».

بدءاً من السابعة مساء يتوافدون، ويلتفون حول طاولاتهم المفضلة، حيث يبقون حتى منتصف الليل، فى مقهى «بريك محمد» المملوك لمواطن مصرى، الذى اتخذوه مكاناً لهم، وأصبح معروفاً بـ«مقهى العراقيين».

ومن بين هؤلاء الجالسين كان محمد العمر، أحد سكان بغداد، الذى أتى إلى مصر مطلع عام 2005 هرباً من أحداث الفتنة بالعراق، وجاء مع أسرته المكونة من زوجة وثلاثة أبناء، وهو يعمل فى مجال الاستثمار العقارى بمصر، واعتاد أن يأتى إلى المقهى كل يوم تقريباً من الثامنة مساءً وحتى الثانية عشرة منتصف الليل، حيث يجلس برفقة زملائه الذين تعرف عليهم داخل مدينة 6 أكتوبر.

{long_qoute_2}

اختار «محمد» 6 أكتوبر، مثل بقية العراقيين، لأنها تشبه المدن العراقية من حيث اتساع شوارعها وابتعادها عن الزحام المرورى الذى تعانى منه وسط القاهرة، قائلاً: «احنا نحب ديارنا تكون واسعة ومناطقنا تكون هادئة، صحيح هنا ما فيه ديار متل العراق لكن على الأقل هى هادئة مو بها زحام وسيارات تغلق الطريق»، ويتابع «العمر»: «هنا نجتمع ناس من جنوب العراق فى البصرة، ومن شمال العراق بالموصل، وما فيه مشاكل بيناتنا لأنه اللى إجى كان يريد الاستقرار، فما يجيب الانزعاج والخلافات معه، نحنا تاركينها هناك بالعراق»، مشيراً إلى أنه تعلق بمصر بسبب وجوده فترة بها وأعماله التى ارتبط بها، ولم يفكر فى مغادرتها، حتى بعد هدوء الأوضاع فى العراق، لافتاً إلى أن العراق استقر بعد مجيئه إلى مصر بأربع سنوات ومرت به فترة داعش وأيضاً انتهت، ولو كان ينتظر فقط هدوء الأوضاع فى العراق لغادر فى الأعوام التى شهدت استقراراً نسبياً فى 2009 و2010 وحتى قبل ظهور تنظيم داعش فى 2014.

على طاولة إلى جواره تجمع حولها 4 رجال بدا على ثلاثة منهم كبر السن، علمت «الوطن» أنهم كانوا قيادات كبيرة فى حكومة صدام حسين، أحدهم كان فى جهازه الأمنى، ويعرفون الكثير عن مصر والعراق والعلاقة بين الشعبين، وطلبوا جميعاً عدم نشر أسمائهم، لكنهم لم يمانعوا فى تحليل أسباب إقبال العراقيين على مصر للاستقرار فيها بعد سقوط العراق.

الأكبر عمراً كان فى إحدى الجهات الأمنية للرئيس العراقى الأسبق صدام حسين، قال إن الاختلاط والعشرة التى دامت بين المصريين والعراقيين خلال فترة الثمانينات وحتى وقوف المصريين مع العراقيين فى الحرب ضد إيران حتى بلغ عدد المصريين فى العراق ملايين، حسب قوله، جعل بين الشعبين ألفة لم تكن مع أى شعب آخر، مستكملاً حديثه: «كانوا عندنا بالعراق حاربوا معانا ضد إيران، وبنوا بيوتنا، وصلحوا سياراتنا وأغراضنا، فصار بيناتنا عمار وألفة، وكثير أقابل مصريين يقولوا أنا والدى كان بالعراق وبنى بيتنا من المصارى اللى كان يرسلها، كثير جداً، وكما نحن احتضناهم فى الماضى، فإن الشعب المصرى يرد الجميل ويحتضنا بقوة ويرحب بنا فى محنتنا».{left_qoute_1}

ويضيف الرجل الذى تخطى العقد السادس من عمره، الكثير من العوامل التى ساعدت على اختيار العراقيين لمصر، من بينها رخص المعيشة وقت قدوم العراقيين على مصر بدءاً من عام 2001، معلقاً: «كنت تشترى البيت بدفترين - والدفتر مصطلح عراقى يطلقونه على مبلغ 10 آلاف دولار»، لافتاً إلى أن الأسعار كانت رخيصة بالنسبة للعراقيين أكثر من دول أخرى، منتقداً فى الوقت نفسه زيادة الأطباء لرسوم الكشف الطبى عليهم، بقوله: «ليش العراقى يأخذ سعر كشف أغلى». وعلى طرف المقهى كان يجلس عباس الطائى، صحفى عراقى بإحدى الصحف العربية بالقاهرة، مع عدد كبير من زملائه منهمكين فى لعبة «الدومينو»، التى يلعبونها جماعية، كانت زيارته الأولى لمصر عام 2005 وكانت قصيرة جداً فقط 15 يوماً، ولم يكن حينها يرغب فى المكوث بها، ولكنه عاد إليها بعد أربعة أعوام ليقرر استكمال دراسته وتحضير رسالة الماجستير فى مصر عام 2009.

يقول «عباس»: «هنا التجمع والتكتلات بيقلل الحنين والشعور بالغربة حتى ولو كنا لا نشعرها وسط المصريين، لكن أيضاً نحب إننا جميعاً نتجمع ونسمع اللكنة العراقية، يعنى هاى الشغلات بنستحسنها، وعن طريق التليفون الناس اللى هنا يقولوا للعراقيين إذا تنزلوا على مصر تعالوا على مدينة 6 أكتوبر»، ويضيف «الطائى» أنه من سكان بغداد وأنه قصد مصر لأنه يعرف الكثير من المصريين بالعراق وشعر بالارتياح للتعامل معهم، خاصة بسبب العمالة المصرية الكثيفة فى العراق فى فترة الثمانينات، إلى جانب التليفزيون والفن المصرى، قائلاً: «صرنا نتحدث باللهجة المصرية لأن مصر كانت عندنا بعمالها ورجالها وفنها وتليفزيونها»، مشيراً إلى أن الثقافة والعادات الاجتماعية متقاربة بين المصريين والعراقيين، خاصة أنهم أصحاب أكبر حضارتين قديمتين، وهما الحضارة الفرعونية والبابلية، وحتى الأكلات الشعبية المصرية أصبح العراقيون مولعين بها، معلقاً: «الكثير من العراقيين يحبون الكشرى والفول، وأنا آكل الكشرى والفول كل أسبوع، وباستمرار، ولا أفوت أسبوعاً أبداً إلا وآكل كشرى مرتين، والفول كذلك، أو أكثر».

{long_qoute_3}

وفى مقهى «فريندز» الذى لا يبعد كثيراً عن مقهى العراقيين، كان يجلس جاسم محمد، العراقى، صاحب المقهى الذى يقدم الشاى بالطريقة العراقية، بينما كل العاملين بالمقهى والمترددين عليه عراقيون، «لكن لا مجال للحديث عن الطائفية أو الخلافات الدائرة بين مكونات الشعب العراقى»، هكذا وضع جاسم محمد، ابن مدينة سامراء بمحافظة صلاح الدين شمال العراق، هذا القانون داخل مقهاه الذى أقامه بعد مجيئه إلى مصر قبل 4 أعوام، حيث كان أحد الفارين من الحرب التى شنتها داعش على المحافظات الشمالية وسيطرت فيها عليها، وجاء بصحبة عائلته، وترك وظيفته بالعراق حيث كان يعمل بشركة اتصالات تم بيعها إلى شركة «زين» الشهيرة.

يضيف «جاسم» أنه لم يترك فى العراق أى شىء يجعله يعود، واختار مصر وطناً له يعيش فيه، معلقاً: «أنا بعت كل شىء وجيت، حرقت كل السفن ورايا وجيت مصر واخترتها بلدى، فاضطريت أفتح شغل وخدت هذا المكان فى الحى السابع بجوار منزلى وسويته مقهى وصالة رياضية للعب البلياردو وسميتها فريندز، يعنى الأصدقاء، وأقصد بها صحبة العراقيين»، مشيراً إلى أن المقهى أصبح علامة يعرفها حتى من هم بالعراق، ويأتيه عراقيون من الجنوب والشمال والوسط، معلقاً: «أنا كنت فى المطار بستقبل أشخاص أقاربى وهم جايين، وأنا هناك لقيت عراقيين يسألونى وين مقهى فريندز»، ويشير الرجل «السامرائى» إلى أنه لا يسمح لأحد داخل المقهى بالحديث عن الطائفية أو التمييز، موضحاً أن الفنانين والكتاب العراقيين يزورون مقهاه، ومن بينهم المطربان الشهيران «رعد» و«ميثاق».

اقرأ أيضًا:

الجامعات المصرية.. وجهة العراقيين للدراسة والإقامة وارتداء «الروب والقبعة».. وأشياء أخرى

طالبو اللجوء: عطف المصريين يهوّن علينا تجاهل «مفوضية اللاجئين»

رجل أعمال عراقى: مصر تشبه أمريكا فى الفرص.. ومناخ الاستثمار أفضل من الخليج

«الموصلى».. شاعر عراقى يكتب 40 قصيدة «فى حب مصر»

«الكباب العراقى» من الفلوجة إلى 6 أكتوبر.. «أكلة الألف سنة» باقية

سر صنعة الخبز العراقى.. الرمى بـ«الطبقية» واللقط بـ«الماشة»

«فتحية»: اخترت مصر لأنها «أم الدنيا»

رئيس الجالية: العراقيون والمصريون أكثر شعبين متجانسين

«زعيم» أقدم أبناء الجالية شارك فى «المقاومة الشعبية» سنة 67.. وحصل على الجنسية بأمر «السادات»

عباس الطائى

عدد من العراقيين يلعبون «الدومينو» بأحد المقاهى

جاسم محمد يتحدث لـ«الوطن»


مواضيع متعلقة