العقوبات الاقتصادية.. عصا «العم سام» الغليظة تجرد «واشنطن» من حلفائها

كتب: نادية الدكرورى

العقوبات الاقتصادية.. عصا «العم سام» الغليظة تجرد «واشنطن» من حلفائها

العقوبات الاقتصادية.. عصا «العم سام» الغليظة تجرد «واشنطن» من حلفائها

«أهلاً بولايات العقوبات المتحدة»، هكذا علق أحد المسئولين الروس على فرض أمريكا عقوبات جديدة على روسيا، بدعوى تورط «موسكو»، فى استخدام غاز «النوفتشوك» السام فى أحد شوارع لندن منذ أشهر، فى مشهد لم تعهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

شهدت الشهور الأخيرة استخداماً مكثفاً للعقوبات الاقتصادية الأمريكية، من قبل إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، باعتبارها «العصا الغليظة»، التى يرفعها «العم سام»، ليس فقط فى وجه أعدائه، بل لتهديد حلفائه القدامى فى خطوة لم تعهدها السياسة الأمريكية، بدأت بحرب تجارية عالمية تضرر منها الحليف الأوروبى ودول صديقة لواشنطن مثل اليابان وكندا، وأخيراً تركيا التى لم يشفع لها احتضانها قاعدة أمريكية، فبمجرد نشوب خلاف حول احتجاز قس أمريكى فى «أنقرة» تسارعت تغريدات «ترامب» ليعلن أن تركيا لم تعد حليفة.

ورغم نتائج العقوبات السريعة الناجعة فى خلخلة اقتصاد دول مثل إيران وتركيا، إلا أن البعض يحذر من ارتداد ضربات العصا الغليظة على «واشنطن» نفسها، وهو ما تجسده الحرب التجارية مع الصين، التى حذرت تقارير من تضرر قطاعات أمريكية مثل الزراعة، ونقص فى الأيدى العاملة، نتيجة تحدى «بكين» ثانى القوى الاقتصادية عالمياً، فهل تتسبب السياسة الترامبية، كما يصفها علماء السياسة، فى سقوط اقتصادى أمريكى أشبه بمغامرة «إيكاروس الصغير» فى كتاب برتراند راسل، الذى اغتر بقوة جناحيه وحاول الاقتراب من الشمس، دون أن يلتفت لتعليمات والده الحكيم «ديدالوس».. هذا ما تناقشه «الوطن» فى الملف التالى

{long_qoute_1}

مع الساعات الأولى من فجر أول أيام عيد الأضحى نهاية ديسمبر 2006، ظهر الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين على شاشات التليفزيون قبيل تنفيذ حكم الإعدام بحقه لـ«الجرائم التى ارتكبها بحق شعبه» بحسب ما أعلنت عنه المحكمة التى تشكلت إبان الغزو الأمريكى، إلا أن قفص الاتهام لم يتسع حينها ليشمل المسئولين عن مقتل مئات الآلاف بفعل العقوبات الأمريكية التى فرضت على العراق طيلة 13 عاماً عقب الغزو العراقى للكويت عام 1990، والتى تسببت فى تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية للأطفال والنساء، بحسب ما رصدته المنظمات الدولية.

«إرسال السفن لتهديد البلدان لدفع ضرائبها».. هكذا كان أول أشكال العقوبات الاقتصادية أو الوجه القاسى للدبلوماسية التى سميت بـ«دبلوماسية البوارج»، التى ألغيت وفقاً لاتفاقية «دراجو - بورتو» عام 1907، إلا أن الولايات المتحدة لم تستطع التخلى عن أسلوب الترهيب طيلة العقود التالية، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، لتصبح سياسة «العصا الغليظة» البديل الآمن عن التدخلات العسكرية التى فشلت «واشنطن» فى تحقيق أى مكاسب سياسية تذكر منها.

يُعرف أستاذ العلاقات الدولية فى جامعة «لوبورو» البريطانية الدكتور بريان هوكينج، العقوبات الاقتصادية بأنها «السعى لتحقيق الأمن الاقتصادى فى نظام دولى فوضوى»، من خلال تعطيل العلاقات التجارية والمالية، أو حظر السفر وفرض قيود على حركات رؤوس الأموال، وتخفيض المساعدات الأجنبية وفرض قيود على التبادل التجارى.

تعد أمريكا الدولة الأكثر استخداماً فى العالم لنظام العقوبات الاقتصادية، ويبدأ الرئيس الأمريكى فرض العقوبات بإصدار أمر تنفيذى يعلن به حالة طوارئ وطنية لمواجهة تهديد أجنبى طارئ، وبموجب هذا الوضع تمنح صلاحيات للرئيس لتنظيم حركة التجارة لفترة تصل إلى 12 شهراً، إن لم يأمر هو أو «الكونجرس» بتجديدها، ومعظم حالات الطوارئ الوطنية منذ قرار «الكونجرس» وضع قيود على مدتها عام 1976 لا تزال سارية حتى اليوم، أبرزها الأمر الأول الذى أصدره الرئيس الأسبق جيمى كارتر بشأن إيران عام 1979 عقب الثورة الإيرانية. ويملك «الكونجرس» بمجلسيه صلاحية إقرار عقوبات جديدة أو تعديل أخرى حالية، ففى يوليو وافق على مشروع قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات المفروضة على روسيا وإيران وكوريا الشمالية، وصدق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على القانون. وجاء نصيب «موسكو»، الخصم الرئيس لـ«واشنطن» فى الحرب الباردة، الأكبر من فرض العقوبات الاقتصادية التى بدأتها بتدشين معاناة «كوبا» طيلة 40 عاماً بحصار اقتصادى عقابى بفعل ثورة فيدل كاسترو عام 1959 لانتمائه إلى المعسكر الشيوعى الذى مثل الفزاعة الأيديولوجية الأبرز لـ«واشنطن» ما قبل تفكك الاتحاد السوفيتى أكتوبر 1991. وبسبب ضم «موسكو» لشبه جزيرة القرم فى مارس 2014، بدأت الولايات المتحدة فرض العقوبات الأولى بالقرن العشرين على «موسكو» ضد عدد من الأفراد والشركات الروسية والأوكرانية، وشملت العقوبات الشخصية قيوداً على التأشيرة وحجب الممتلكات وإيقاف الحسابات البنكية للأفراد والشركات المدرجة على القائمة السوداء، ويحظر على المواطنين والشركات الأمريكية الاحتفاظ بعلاقات تجارية معهم. وتأثرت قطاعات رئيسية فى الاقتصاد الروسى بالعقوبات مثل القطاعات المالية والطاقة والدفاع.

الموجة الثانية من العقوبات الأمريكية بدأت بعد أيام من قمة تاريخية بين الرئيس الأمريكى ونظيره الروسى الشهر الماضى، لفرض حظر توريد الأسلحة والمعدات العسكرية والتقنيات ذات الاستخدام المزدوج، فضلاً عن المعدات والتقنيات ذات التقنية العالية، التى تستخدم فى مشاريع التنقيب وإنتاج النفط فى أعماق البحار، وقد انعكس تأثيرها سريعاً على تصريحات رئيس الوزراء الروسى دميترى ميدفيديف، بشأن إمكانية اعتبار العقوبات الأمريكية على بلاده بمثابة «إعلان حرب اقتصادية»، وتهدف إلى القضاء على روسيا كخصم اقتصادى، فيما أشار مركز «كارنيجى موسكو» إلى أن «واشنطن» تستخدم العقوبات باعتبارها سلاحاً مفضلاً فى «حرب هجينة» مع روسيا، التى بدأت الأخيرة فى الظهور مجدداً على الساحة الدولية فى سوريا وتقديم الدعم السياسى لإيران وتركيا.

تتقاسم «طهران» نصيب الأسد مع «موسكو» فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية، التى بدأتها عقب أزمة احتجاز مجموعة من الطلاب موظفى السفارة الأمريكية فى «طهران» عقب الثورة الإيرانية 1979، تسبب ذلك الحادث فى تجميد كامل الأصول الإيرانية، أعقبه بعدها بسنوات تشديد العقوبات. وفى عام 1984 فرض حظر على بيع الأسلحة لإيران، وفرض حظر على المساعدات الاقتصادية لإيران، وفى عام 1996 كان هناك حظر آخر على تجارة النفط بين إيران والولايات المتحدة، وحظر على نشر الأبحاث العلمية الإيرانية أو الاتصالات المباشرة بين البنوك الإيرانية والأمريكية عام 2004، ما تسبب فى ارتفاع كبير فى أسعار السلع الأساسية فى البلاد. {left_qoute_1}

ورغم مقاومة الاقتصاد الإيرانى للعقوبات الأمريكية، إلا أن هشاشته لن تجعله يصمد كثيراً بعد موجة العقوبات المقبلة التى تأثر بها الريال الإيرانى منذ أيام بخسارة 22% من قيمته أمام الدولار، وهى بمثابة حبل مشنقة يلتف حول العملة الوطنية، أدت لانفجار الاحتجاجات الشعبية فى مناطق عدة فى البلاد نهاية العام الماضى.

حرب العقوبات الاقتصادية الأمريكية لم تقتصر على الدول التى تقف منها «واشنطن» موقف العداء لسياستها الخارجية، بل شملت الحلفاء والمنافسين، وهو ما عكسته الحرب التجارية التى طالت اليابان وكندا والاتحاد الأوروبى، وبالتوازى شن حرب أكثر ضراوة على الصادرات الصينية، وصولاً إلى تركيا التى كانت أحد حلفاء «واشنطن» وتحتضن قاعدة «إنجرليك» الجوية التى تعتبر نقطة ارتكاز أمريكية باتجاه الشمال الشرقى، إلا أن اعتقال «أنقرة» لقس أمريكى بتهمة المشاركة فى محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، تسبب فى دخول عقوبات أمريكية حيز التنفيذ سرعان ما ضربت عملتها الليرة منذ أيام لمستوى قياسى بفقدان أكثر من 20% من قيمتها، ليصل إجمالى ما فقدته الليرة منذ بداية العام الحالى 50% من قيمتها.

«تعامل الولايات المتحدة مع من يعتمدون عليها بازدراء وتقايضهم فى مقابل تحقيق مصالحها لأن تحمل تكلفة حماية الحلفاء من غرب أوروبا إلى شرق آسيا، فى غير مصلحتها»، هكذا جردت سياسة «ترامب» الخارجية أمريكا من حلفائها قبل ترهيب أعدائها، وفقاً لما ذكره مقال نشر فى صحيفة «واشنطن بوست» للباحث بمعهد «بروكنجر» روبرت كاجان، بعنوان «أمريكا ترامب»، لافتاً إلى أن النقاش حول السياسة الخارجية لـ«ترامب» انصب على أن الولايات المتحدة أمام خيارين، إما أن تدافع عن النظام الدولى الليبرالى أو تجنح إلى الانعزال وتنسحب من التفاعلات الدولية وتتخلى عن دورها القيادى، لكن «ترامب» أوضح أن هناك خياراً آخر هو الانخراط المستمر على الساحة الدولية اعتماداً على القوة الأمريكية الفجة وحدها دون الاعتداد بقواعد النظام الدولى أو التعهدات السياسية أو الاستراتيجية التى أخذتها الولايات المتحدة على عاتقها فى عهود سابقة.

وتحصر «أمريكا ترامب» تعريفها للمصلحة القومية والأمن القومى، كما ذكر «كاجان»، فى إطار السنتات والدولارات التى تدفع مقابل الحماية من الاعتداء الخارجى. وفى الوقت نفسه، لا ترغب «واشنطن» فى الحرب وسوف تهادن القوى التى لا تستطيع إلحاق الضرر بها، وتعاملهم باحترام وتسمح لهم بالاحتفاظ بمناطق نفوذهم، فى إشارة واضحة لروسيا.

وتنبع هذه السياسة الخارجية، كما ذكر الباحث الأمريكى فى منظمة «مجلس العلاقات الخارجية» ستيفن سيستانوفيتش، من إدراك «ترامب» أن قاعدته الشعبية تعبت من تحمل أعباء القيادة العالمية، خاصة مع التكلفة العالية التى ترتبت على الحرب العالمية على الإرهاب وحربى العراق وأفغانستان، لكن هذه القاعدة الشعبية لا تريد فى الوقت نفسه التخلى عن الإحساس بأن الولايات المتحدة قادرة على إملاء شروطها على الآخرين.

هل تؤثر عقوبات البيت الأبيض على سياسات الدول الخارجية؟ تساؤل يصعب الإجابة عنه بشكل قاطع، بحسب ما ذكره الأستاذ بجامعة «ويسترن سيدنى» الأسترالية الدكتور ديفيد روو، لافتاً إلى أن المفهوم الذى يشكل نجاح نظام العقوبات غير واضح ونادراً ما يسعى صناع السياسة إلى التأثير على هدف واحد، ومن الصعوبة تحديد مدى ملاءمة العقوبات كأداة سياسية، فى ظل ضرورة وجود فهم لدى صانعى السياسات لعواقب استخدام أسلوب الجزاءات كأداة من أدوات الحكم. «أكثر أدوات الحرب فتكاً».. هكذا وصف أستاذ العلاقات الدولية بمعهد «هوفر» بجامعة «ستانفورد» الأمريكية الدكتور أنجيلو كودفيلا، العقوبات الاقتصادية، لافتاً إلى تسببها فى المجاعة ووفاة الملايين، إلا أن نجاعة هذه الأداة تتوقف على الظروف التى تستخدم فيها. وتلجأ «واشنطن» لهذه السياسة، بحسب «كودفيلا»، بدلاً من إرسال قوات المارينز الأمريكية، فى محاولة لتغيير سياسات البلدان الأخرى لتعيش فى «سلام» بحسب المفهوم الأمريكى، وهو ما وصفه بهدف السياسة الأمريكية «الرخيص». ويصف «أنجيلو» القيود الاقتصادية بالأداة السياسية غير الحاسمة، والعشوائية، وهو ما يتجلى فى العقوبات على إيران والعراق وكوريا الشمالية.

وفى محاولة لتفادى تأثر الشعوب بالعقوبات، كما ذكر «أنجيلو»، بدأت الإدارة الأمريكية تستخدم ما يسمى بـ«العقوبات الذكية» التى تستهدف تقييد الدولة وليس قتلها، مثلما فعلت باستهداف صناعة النفط الإيرانية لتستطيع التأثير على نظام الملالى الإيرانى، إلا أن هذه العقوبات لم تستطع تحقيق أهدافها رغم تأثيراتها المدمرة على الشعوب، ولكن الإدارة الأمريكية مستمرة فى استخدامها بهدف «الاستعراض».

«بما أن العالم لم ينته.. وبما أننى لست ميتاً بعد.. أقترح أن نأخذ نفساً عميقاً وننظر للقصة من الجانب الآخر»، هكذا تحدث الكاتب الأمريكى مايكل جودوين فى مقال نشرته مجلة «نيوريورك بوست» قبل أيام، وهو مقال لاقى إعجاب الرئيس الأمريكى نفسه بشكل دفعه إلى مشاركته على حسابه على موقع «تويتر»، حيث وصف «جودوين» شعار «أمريكا أولاً»، الذى يردده الرئيس الأمريكى فى معظم خطاباته بأنه أكثر من مجرد شعار بل خارطة طريق لإعادة تشكيل علاقة أمريكا مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء.

وبدأ «جودوين» فى حصر المكاسب السياسية الأمريكية من الترهيب الاقتصادى الأمريكى لحلفائها، فمثلاً الصين لن تستطيع القتال فى معركتها التجارية مع «واشنطن»، وانهارت العملة التركية وبلغت نسبة التضخم 85%، كما ساهم الانسحاب الأمريكى من الاتفاقية النووية الإيرانية مايو الماضى، فى زيادة الضغط الاقتصادى على نظام الملالى وزيادة التظاهرات والاضطرابات التى تدفع لانتقاد تورط إيران فى سوريا ودعمها لحماس فى غزة، وسرعان ما انسحبت بعض الشركات الأوروبية من إيران تجنباً لإدراجها بالقائمة السوداء الأمريكية.

فيما يتعلق بحلف شمال الأطلسى «الناتو»، لفت «جودوين» إلى أن إثارة «ترامب» لقضية الإنفاق فى الحلف تسببت فى موافقة الاتحاد الأوروبى على شراء المزيد من الطاقة الأمريكية. ويواصل الرئيس الأمريكى، بحسب «جودوين»، التقدم بشأن روسيا بتصحيح ما وصفه بـ«الخطأ» بسبب قمة «هلسنكى» مع نظيره الروسى بفرض عقوبات منذ أيام على «موسكو» تؤكد أنها خصم وليست صديقة.


مواضيع متعلقة