حكومة المستقبل.. اقتصاد المعرفة

تعلمنا فى محاضرات «علم الاقتصاد» فى العام الدراسى الأول بكليات الحقوق أن عناصر الإنتاج ثلاثة: العمل (Labor)، رأس المال (Capital)، والأرض (Land). والعمل هو كل ما يُبذل من مجهود سواء كان ذهنياً أو جسدياً، لغايات تحويل المواد الخام إلى سلع وخدمات ذات فائدة للأفراد. أما رأس المال، فيندرج تحته كل من السلع الرأسمالية والاستثمارية، أى إن مفهوم رأس المال لا يقتصر على النقود، وإنما يمتد إلى كل العناصر التى تدعم العملية الإنتاجية، مثل الآلات والطرق ووسائل النقل وغيرها. ويشمل العنصر الثالث من عناصر العملية الإنتاجية كل ما هو على سطح الأرض الصالحة للزراعة وباطنها من مياه جوفية وغابات وأنهار وثروات معدنية. وتفاوتت أهمية العناصر الثلاثة آنفة الذكر حسب مرحلة التطور التى مرت بها المجتمعات البشرية. ففى ظل الاقتصاد الزراعى، كانت الأرض هى العامل الرئيسى للإنتاج، بينما احتل رأس المال المرتبة الأولى مع بزوغ عصر الثورة الصناعية. وسواء كان الاقتصاد زراعياً أو صناعياً، احتل العمل أهمية كبيرة، بحيث كان المحرك الأساسى للعملية الإنتاجية، ولا يمكن إنجاز العمل بدونه.

ولكن، وفى سياق الثورة التكنولوجية الرابعة التى يشهدها العالم حالياً، أُضيف عامل رابع إلى العوامل الثلاثة سالفة الذكر، وهو «المعرفة». بل إن المعرفة أصبحت هى العامل الرئيسى فى الإنتاج، وهو ما أكده العالم الأمريكى (Peter Drucker) فى كتابه الصادر عام 1993م بعنوان «ما بعد المجتمع الرأسمالى» (Post-Capitalist Society)، حيث ذهب إلى أن المعرفة أصبحت مورداً أساسياً من موارد الإنتاج، بحيث ازداد المكون المعرفى فى المنتج إلى حد كبير، سواء كان سلعياً أو خدمياً، وهو ما يعنى التحول فى مركز الثقل من المواد الأولية والمعدات الرأسمالية إلى التركيز على المعلومات والمعرفة والبحث. وبدورهما، يؤكد العالمان الأمريكيان (Alvin Toffler) و(Heidi Toffler) الأهمية الكبيرة التى تحظى بها المعرفة فى الاقتصاد المعاصر، وذلك فى كتابهما الصادر عام 2006م بعنوان (Revolutionary Wealth)، أى «الثروة الثورية».

وللتدليل على هذا التطور، يكفى أن نشير إلى أنه فى عام 1950م، كانت أكبر الشركات فى أمريكا يبلغ رأس مالها نحو 36 مليار دولار، حيث كانت توظف 1.2 مليون عامل، وفى عام 2014م حصل انقلاب فى هذا الموضوع، إذ أصبح رأس المال السوقى لأكبر الشركات الموجودة فى «سيليكون فالى» (فيس بوك، آبل.. إلخ) يبلغ 1.1 تريليون دولار، وعوائدها المالية نحو 225 مليون دولار، وتوظف فقط 136 ألف شخص. ويبدو هنا بشكل واضح مدى التغيير فى المفاهيم الذى أدى إلى تغير فى الوظائف، إذ لم يعد رأس المال هو العنصر الرئيسى المحرك لهذه الشركات، وإنما فكرة بسيطة يمكنها أن تظهر وتتبلور من دون التركيز على رأس المال. كذلك، تغيرت النظرة إلى العنصر البشرى فى العملية الإنتاجية، بحيث لم يعد العمال ذوى العضلات، بل العمال ذوو العقول المبدعة.

وهكذا، غدا مستساغاً نسبة الاقتصاد الحديث إلى المكون المعرفى، من خلال استخدام مصطلح «اقتصاد المعرفة» (Knowledge Economy). وفى ظل هذا التطور، يصبح من الضرورى التركيز على إنشاء مجتمع المعرفة، الأمر الذى يتحقق من خلال التركيز على تقليل الفجوات المعرفية بيننا وبين العالم المتقدم. كذلك، نرى من الأهمية بمكان تطوير التشريعات الاقتصادية والعمالية والضريبية بما يكفل تغيير شكل الاقتصاد الوطنى وتحويله إلى اقتصاد معرفى وعلاج الآثار الاجتماعية لهذا التحول. والمأمول كذلك أن تبادر جامعاتنا إلى تطوير مناهجها بما يتلاءم مع التطور الاقتصادى الذى يشهده العالم فى الوقت الراهن.

والله من وراء القصد.